إن محاولة فهم الواقع، والمشهد الليبي الراهن، تقتضي أن نعرف ونلمّ ببعض المعلومات عن هذا البلد، من حيث الموقع، والمساحة، والسكان، والثروات، والدول المجاورة، وغير ذلك... فليبيا تعتبر بوابة أفريقيا على أوروبا بشاطئ على البحر الأبيض المتوسط طوله ألفا كم تقريبا وبمساحة لهذه البلاد تقدر بمليون وسبعمائة وخمسين كيلومتراً مربعا، وبعدد سكان لا يزيدون عن سبعة ملايين نسمة، وثروات طبيعية هائلة من نفط، وغاز، ومعادن مختلفة، وطاقة شمسية وغيرها، وبحدود مترامية تربطها بستٍّ من دول الجوار التي لها تأثير في المشهد الليبي بالسلب أو الإيجاب.
إن بلدا بهذه الأهمية في الموقع، وبهذا الحجم في المساحة، وبهذه الثروات الهائلة التي يسيل لها لعاب الدول الكبرى والإقليمية، وبهذا الفراغ السكاني والأمني والعسكري والسياسي، لا شك أن ذلك كله هو ما جعل ليبيا بؤرة تنافس وصراع بين كثير من القوى الدولية والإقليمية للفوز بالثروات والنفوذ.
إن ما نراه من هذه التعقيدات في المشهد الليبي، وهذه الإطالة في عمر الأزمة هي نتيجة لهذا الصراع الشديد بين الأطراف الدولية، والإقليمية، والمحلية، والذي يبدو منه أن أي طرف من هذه الأطراف لا يستطيع أن يحسم الأمر لصالحه، سواء في ذلك الأطراف المحلية أو الخارجية، كما نراه الآن من هذه الحرب الدائرة بين القوى الليبية المتصارعة والتي تغذيها جهات خارجية كلٌّ حسب مصالحه ومشاريعه.
وربما كان من نتائج هذه الحرب الأخيرة أنها وحّدت صفوف كثير من الكتائب والمليشيات التي كانت تتقاتل في طرابلس والمناطق الغربية، ووحدت صفوف ثوار فبراير في مواجهة هذه الحرب التي يشنها حفتر، ومن يدعمه. وقد استفاد السراج وحكومة الوفاق من هذه الحرب التي وحدت صفوف الثوار، ووحدت الكتائب والمليشيات المختلفة، وجعلتهم جميعا يقاتلون تحت قيادته، رغم خلافهم واختلافهم معه، ونظرة السراج إليهم بأنهم كانوا خارجين عن سلطته، وعن القانون.
كما أنه في المقابل استفاد الثوار من هذا الواقع الجديد واستعادوا هيبتهم، وتوحيد صفوفهم، وعودتهم بقوة إلى المشهد السياسي والعسكري، والأمني، مما قد يشكل عقبة في وجه السراج إذا ما حاول التفاوض أو تقديم تنازلات إلى الطرف الآخر، أو خضوعه لضغوطات دولية أو إقليمية. كما أن عودة الثوار إلى المشهد بهذه القوة، واحتمال حسم الحرب لصالحهم قد أربك وأفشل مخططات الدول الكبرى والإقليمية فضلاً عن إرباك وإفشال مجهودات حفتر الذي يقاتل نيابة عن هذه الدول.
ونذكر في هذا السياق ما صدر عن غسان سلامة في المدة الماضية من تصريح بأن (سياسة الولايات المتحدة الأمريكية كانت إعطاء فرصة للحرب)، وأن دولة أو دولا كانت تراهن على أحد الأطراف لكسب الحرب، والمقصود هو حفتر. وهذا يعني أن أمريكا ومعها الدول الداعمة لحفتر كانوا ينتظرون أن يحسم حفتر الحرب لصالحهم وصالحه، ولكنه فشل رغم صبرهم عليه، وإعطائه الفرصة تلو الأخرى منذ أكثر من أربع سنوات ودعمه بكل ما يطلبه من مقومات الحرب. وفي سياق تصريحات غسان سلامة نشير إلى ما صرح به لصحيفة (لبراسيون) عن قبول حفتر لسحب قواته من القتال مقابل حصوله من خصومه في طرابلس على ضمانات تمكنه من تولي أحد المناصب العليا في الدولة مع شروط أخرى طلبها. وهذا يعني أن حفتر قد هزم في الحرب وخسر المعركة، وأراد أن يحفظ ماء وجهه وينسحب بشروط وكأنه منتصر، بدل أن ينسحب مكرهاً أمام قوات خصومه. وربما كانت طلبات كثير من الدول الكبرى والإقليمية، وبعض السفراء، ومجلس الأمن، والأمم المتحدة، ربما كانت طلباتهم بوقف إطلاق النار تصب في هذا المعنى، وفي هذا السياق، أي في الحفاظ على هيبة وماء وجه حفتر وداعميه من الدول الكبرى والصغرى على السواء ومن أنصاره وأتباعه.
ومما يشير أيضا إلى أن حفتر قد خسر الحرب ما صدر أخيرا عن مجلس الأمن من التأكيد على شرعية حكومة الوفاق، وأنها الوحيدة المخولة بإدارة شؤون البلاد والمؤسسات الاقتصادية والمالية، وعدم التعامل مع الجهات الموازية، وهذا يشمل الحكومة المؤقتة، والمصرف المركزي، ومؤسسة النفط في المناطق الشرقية، والتي هي تحت حكم وسيطرة حفتر.
إن هذه المتغيرات والمؤشرات على قرب نهاية دور حفتر في ليبيا لا تعني نهاية مشروع أمريكا في ليبيا الذي كان حفتر يعمل من أجله لسنوات عديدة، وإنما ذلك يعني أن أمريكا لا تريد أن تعطي حفتر فرصاً أخرى للسيطرة على ليبيا بعد فشله المستمر لعدة سنوات، ويعني أن أمريكا قد أوجدت أو وجدت بدائل عن حفتر في المناطق الشرقية والغربية سواء أكان هؤلاء الأشخاص البدائل مدنيين أو عسكريين. وليس صحيحا ما يقوله أحد المحللين السياسيين الليبيين المقيم في أمريكا والمطلع والمتابع عن قرب لدوائر القرار في أمريكا: إن أمريكا ليس لها أي مشروع في ليبيا وأنها ليست محتاجة لليبيا، وحتى بعض شركاتها النفطية قد باعت حصتها إلى شركة توتال الفرنسية وغيرها. وكأنه يريد أن يبرئ أمريكا من هذا الفشل الذي أصاب حفتر وأصابها، ويوهم الرأي العام بأن أمريكا محايدة وليس لها مصالح إلا في محاربة (الإرهاب)، وكأنه يقول كذلك بعدم وجود الصراع الدولي بين الدول على المصالح وعلى استعمار الشعوب، وعلى النفوذ وعلى تنصيب الحكام الذين يعطون لأسيادهم من الأموال في ساعات ما لم تدرّه عليهم مئات الشركات في عشرات السنين!
وهكذا نرى أن بلادنا مع الأسف الشديد وسائر بلاد المسلمين أصبحت مسرحا للمؤامرات والمخططات الدولية بدل أن تكون تحت قيادة دولة إسلامية واحدة تقود العالم بمبدأ الإسلام العظيم امتثالا لقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.
بقلم: الأستاذ محمد صادق
رأيك في الموضوع