ثمة منعطفات خطيرة تمر بها ثورة الشام؛ تزيد من معاناة أهلها؛ وتضيق الخناق حول رقابهم شيئا فشيئا، حتى لم يعد لهم سوى متنفس واحد وربما يكون المتنفس الأخير ينبعث هواه من الشمال السوري.
تكلمنا كثيرا فيما مضى عن الأسباب التي أدت إلى هذه الحال؛ والطريق الذي سلكه الغرب لإيصال أهل الشام إلى ما وصلوا إليه، فلا حاجة لإعادة الحديث عنها بشكل مفصل؛ فقد أصبحت واضحة للعيان وبديهة في الأذهان، ولا حاجة لنا للوقوف على الأطلال؛ واستدعاء الماضي وما يحمله من ذكريات جميلة أو أليمة؛ فلا زلنا نعيش تفاصيله ونعاني تداعياته.
والذي يهمنا اليوم في الدرجة الأولى؛ هو حاضرنا الذي نعيشه، والذي سوف يؤسس لمستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا.
لقد شاهد الناس بذهول ما حصل على أرض الشام بعد اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس التركي أردوغان؛ بنظيره الروسي بوتين، هذا اللقاء الذي جعل التقدم الأخير لطاغية الشام وما شهدته المناطق من قصف عنيف ترجمة عملية لما اتفقا عليه.
فقد تقدم النظام المدعوم دوليا وليس فقط روسيا؛ وسيطر على مناطق واسعة في مدة قياسية؛ ودون مقاومة تذكر، حتى سيطر على مدينة خان شيخون؛ ومن ثم سقطت باقي المناطق تباعا؛ كمدينة اللطامنة وكفرزيتا ومورك وغيرها من القرى والبلدات التي تمتلك رمزية كبيرة عند أهل الشام، فكانت السيطرة على هذه المناطق كالصاعقة التي نزلت على رؤوس أهل الشام؛ لتدمر جزءاً لا يستهان به مما تبقى لهم من آمال في استعادة الثورة زمام المبادرة، ومما زاد من شدة الواقعة، وجود نقطة للجيش التركي ضمن المناطق التي سقطت والتي سيطر عليها النظام مؤخرا؛ وخاصة بعد أن كان قسم كبير من الناس يعول على هذه النقاط؛ ويعتبرها خط دفاعه الأول، ليكتشف لاحقا أنه الخط الدفاعي الأخير؛ وأن هذه النقاط لم تكن سوى وهمٍ عاشه فترة من الزمن؛ ليستيقظ على كابوس ساهم في قطع أعضاء جديدة من الجسد المثقل بالجراح.
كل هذا وإن كان يشكل صدمة قوية؛ لكنها ستكون صدمة الإنعاش بإذن الله، لتستمر الحياة وتستمر الثورة حتى إسقاط النظام المجرم، وإقامة حكم الإسلام على أنقاضه، فأن تستيقظ متأخرا خير لك من ألا تستيقظ أبدا، فلربما تدرك ما فاتك قبل فوات الأوان، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
إن الدروس العملية التي تلقاها أهل الشام خلال سنوات الثورة؛ كافية لتحصنهم من جميع المؤامرات، ولتجنبهم جميع الفخاخ؛ ولتكسبهم مناعة ضد جميع الأمراض، فقد استيقظوا من وهم المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية؛ وعلى رأسها منظمة حقوق الإنسان، واستيقظوا من وهم الدول (الصديقة) ودعمها المزعوم، ونقاطها الخادعة، ومالها السياسي القذر، وتجلت أولى حركات الاستيقاظ هذه بالمظاهرات العارمة الغاضبة على النظام التركي، والتي ترجمت غضبها بمحاولة اقتحام جدار الفصل العنصري الذي بناه على طول الحدود التركية السورية؛ وحرق صورة أردوغان، واستيقظوا من وهم الهدن القاتلة المخدرة، التي ساهمت في قطع أعضاء مناطقهم مرة بعد مرة، واستيقظوا من وهم قيادات الفصائل، التي أثبتت أنها لم تكن سوى أدوات لتنفيذ مخططات أسيادها، وتجلت أولى حركات هذا الاستيقاظ في فقدان الثقة بهذه القيادات والدعوة للخروج عليها وإسقاطها؛ والعمل على إيجاد تشكيلات جديدة بعيدة عنهم؛ مستقلة غير مرتبطة بدول مهما كانت الأسباب.
إن هذه الدروس كفيلة لإعادة ترتيب الأوراق بشكل صحيح؛ فنتفادى ما كان سببا في حرف الثورة عن مسارها كالمال السياسي القذر والهدن والمفاوضات وعدم الركون للظالمين ونبذ القيادات الفاسدة، وكفيلة لنستثمر ما في أيدينا من طاقات بعد التوكل على الله وحده والاعتصام بحبله المتين، فالمخلصون كثر لكن يلزمهم التوحد خلف قيادة مستقلة غير مرتبطة؛ مخلصة وواعية، وهذا كفيل لاحتضان الناس لهم؛ ودعمهم بما يستطيعون، حتى يستطيعوا كسر الطوق الذي فرض عليهم؛ وينطلقوا مهللين مكبرين ومستبشرين بنصر الله سبحانه وتعالى.
وقبل ذلك لا بد من معرفة الخطط والأهداف التي يسعى لتحقيقها الغرب الكافر، وهي في الحقيقة باتت معروفة للجميع، ولكن ضغط الظروف وكثرة التفاصيل صنعت غمامة أحاطت بها من كل جانب؛ فتوارت عن الأنظار وانصرفت عن الأذهان. أضف إلى ذلك أن بُعد خطر هذه الخطط بالنسبة للخطر اليومي القريب؛ يجعل الإحساس بها أضعف نسبيا، وبالتالي إدراك أبعادها وأخطارها والتفكير بإفشالها بعيداً عن الأذهان بعض الشيء، فكان لا بد من وضع الهدف الرئيس للغرب الكافر ووضع مراحل التنفيذ على طاولة البحث لتحفيز الإحساس عند الناس بخطرها في مقدمة لإدراك هذا الخطر والعمل على تفاديه.
إن الهدف الرئيس للغرب الكافر؛ هو إعادة أهل الشام إلى حظيرة عميله طاغية الشام بأي شكل من الأشكال، ومهما كلفت النتائج، فهذا الهدف يجب أن لا يغيب عن الأذهان أبدا؛ ويجب تفسير كل أعمال الغرب الكافر المتعلقة بثورة الشام؛ وأعمال أدواته من الحكام العملاء على هذا الأساس، وهذا الهدف واضح من أساليبه وكيفية تعامله مع ثورة الشام؛ وكيفية تعامله مع عميله المجرم طاغية الشام.
لقد أكد الغرب الكافر مرارا وتكرارا أن الحل في سوريا هو حل سياسي، وأعطى لحله صبغة دولية ليكسبه (الشرعية)، ثم أخذ يمارس المكر والخداع ونصب الفخاخ والاحتواء؛ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، وهو سوف يتابع السير في طريقه حتى تحقيق هدفه إن استطاع، فهو يعمل على فرض وقف لإطلاق النار في آخر منطقة من مناطق المحرر؛ وإيجاد منطقة عازلة تضرب طوقا حول هذه المناطق، كما يعمل على فتح الطرقات الدولية - وهذه مرحلة من المراحل حصل الاتفاق عليها في مؤتمر سوتشي - ثم بعد ذلك يعمل على تبريد المناطق عن طريق فرض واقع جديد من الاستقرار تحت حكومات معينة شكلية تحميها فصائل تملك النفوذ والسيطرة، ثم يعمل على صياغة دستور جديد للبلاد؛ وذلك بعد استكمال لجنة صياغة الدستور، ثم تدخل البلاد في مصالحة مع قاتلها ومنتهك أعراضها، وتدخل في تسوية مع جلادها تحت مسميات عدة ولكن هذه المرة بدون باصات خضراء، فتعود البلاد والعباد إلى حظيرة الجلاد من جديد ولو بوجوه جديدة فيكون بذلك قد حقق هدفه وأجهض الثورة وأضاع التضحيات.
نعم هذا ما يهدف له الغرب الكافر؛ ولكن لأهل الشام هدفهم المختلف؛ فهم خرجوا لإسقاط النظام المجرم، ثم تبلورت مطالبهم فأضافوا لها حكم الإسلام، وقدموا في سبيل ذلك الغالي والنفيس، ورغم كل الأعمال التي قام بها الغرب الكافر؛ والتي استهدفت روحهم المعنوية لثنيهم عن متابعة طريقهم ودفعهم للاستسلام للحلول الغربية؛ إلا أن نورا من الأمل لا زال يضيء في آخر النفق؛ وثورة جديدة لتصحيح المسار تلوح في الأفق، وهذا واضح من الانفجارات المتعددة هنا وهناك والتي تؤذن بالانفجار الكبير لبركان ثائر، يصهر بحممه الملتهبة كل متآمر وعميل، ويشق طريقه للوصول إلى هدفه المنشود وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الوهاب
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع