تستعر المنافسة بين مرشحي الرئاسة في تونس بالتزامن مع اقتراب تاريخ الاستحقاق الانتخابي المقرر منتصف الشهر الحالي، في حين بدأ المرشحون باستعراض برامجهم فيما يخص إدارة الشأن المحلي والدولي حال وصولهم إلى كرسي الرئاسة. (الجزيرة نت)
هكذا، تستعد الأحزاب السياسية في تونس، وعلى رأسها الأحزاب الحاكمة، لدخول "ماراتون" الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في محاولة جديدة لإيهام أهل تونس أن هذه المناسبة لن تكون كسابقاتها، وأنها ستفرز تغييرا حقيقيا ينسي الناس مرارة السنوات العجاف التي أعقبت هروب بن علي.
وبما أن الأمور تعرف من مقدماتها، فإن نظرة سريعة على واقع الحياة السياسية في تونس كافية لفهم وإدراك حقيقة هذا المسار الذي لا يزال الغرب متحكما في نتائجه.
فإثر هلاك السبسي يوم 25 تموز/يوليو 2019، سارع رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى تفويض أحد أبرز رجالات النظام السابق وهو كمال مرجان لينوب عنه في تسيير أعمال الحكومة وتنظيم الانتخابات، ولينضم إلى قافلة المتسابقين على إنقاذ بقايا النظام المتهاوي انتصارا لديمقراطية تحتضر في بلاد الغرب.
ولذلك، لم يكن غريبا على صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، أن تنشر مقالا بتاريخ 28 تموز/يوليو 2019، تتحدث فيه عن تونس كبلد صغير في شمال أفريقيا أبهر العالم بدرس في الديمقراطية خلال تشييع جنازة الرئيس، وهي مقولة تكالبت على ترديدها أبواق الاستعمار في الداخل ولا تزال.
كما أشاد المقال بالانتقال السلس للسلطة، حيث عدّه "إنجازا" نسبه إلى دستور 2014 الذي كان واضحا بتسلم رئيس البرلمان مقاليد الحكم وقتيا برئاسة البلاد. ثم طالب الكاتب بعد انتقاد نظام الملكيات في الخليج، بأن تكون تونس محل تبجيل من العالم باعتبار أنها شمعة مضيئة في ظلمة الديكتاتوريات العربية مردفا بالقول: "لقد دحضت تونس سردية الغرب بأن الديمقراطية لا يمكن أن تنمو في التربة العربية وأثبتت عكس ذلك".
هذا المقال، يذكرنا مباشرة بتصريح رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عشية العملية الإرهابية التي تزامنت مع خبر تعرض الرئيس السبسي لوعكة صحية قبل شهر من وفاته، حيث حذر من "حرب إعلامية" تقودها بعض بلدان الخليج، التي تخشى نجاح التجربة التونسية، وتهدف لإحداث اضطرابات في البلاد. فقد صرح لإذاعة "موزاييك أف أم" يوم 28 حزيران/يونيو 2019 بأن هذه البلدان "تخاف من نجاح النموذج التونسي الذي يتجه إلى التتويج بالانتخابات القادمة"، مضيفا أن "المستهدف من هذه الحرب هو النموذج التونسي الذي يمثل تحديا لأنظمة بالية وأن الجواب الصحيح على هذه المخططات الكيدية هو التوجه إلى إجراء الانتخابات في موعدها".
هكذا إذن، يسعى الغرب إلى صناعة ما أسماه البعض بـ"النموذج التونسي" أو "الاستثناء التونسي" الذي يجعل من تونس مختبرا سياسيا أو قسم إنعاش للديمقراطية، قد يجري تعميمه على البلدان المجاورة التي لا تزال تعيش على وقع ثورات الشعوب ضد أنظمتها سعيا إلى كنس الاستعمار وعملائه.
أما أداة الغرب في صناعة هذا النموذج، فهي جريمة الانتخابات التي يُساق لها أهل تونس، وتضخ من أجلها الأموال الطائلة وتدعمها القوى الاستعمارية الكبرى. حتى إن الأمر لم يقف عند حدود الألف مليون دينار (350 مليون دولار) التي منحتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية لتونس يوم 28 آب/أغسطس 2019، من أجل توطيد النظام الديمقراطي في بلدنا كما ورد على موقع السفارة الأمريكية بتونس، بل تعدى ذلك ليصل إلى حد استيراد صناديق الاقتراع وإشراف منظمة أجنبية على منح هيئة الانتخابات للحبر الانتخابي كما جاء على لسان رئيس الهيئة نبيل بوفون!
وعلى ضوء ما ينسجه الغرب في دوائر قراره، وما يجلبه على وكلائه بخيله ورجله، يسير الساسة والحكام سير العبيد، ليعيدوا استنساخ النظام القديم نفسه ولكن بمظهر جديد، فيضيفون بعض مساحيق التجميل على الديمقراطية في تونس، علّهم ينسون جرمها وظلمها، ويوهمون الناس بأنه عهد التغيير، مع أن الأمر لا يتجاوز تكرار الأسطوانة المشروخة نفسها التي استعملت لتنصيب بن علي ومن قبله بورقيبة، بالإخراج الرديء ذاته.
أما عن مرشحي الانتخابات الرئاسية الذين بلغ عددهم 26 مترشحا، فبين من يقوم برنامجه على إقصاء الإسلام السياسي كما صدع بذلك رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة، ومن يلبس الجبة ويعلن أنه يمثل حزبا سياسيا مدنيا لا علاقة له بالأيديولوجيا على شاكلة مرشح حركة النهضة (المنسوبة للإسلام) عبد الفتاح مورو، فإن الجميع متفق وبالإجماع على ما أسموه "ثوابت الحياة السياسية" في تونس، وهي أن تكون تونس دولة مدنية لا علاقة لها بالدين وبالقرآن، وإنما تفصل شؤون الناس فيها وفق مبادئ الدستور وعلوية القانون الذي يسنه البرلمان، بما يكرس دعائم النظام الجمهوري العلماني ويثبت الديمقراطية في الحكم والرأسمالية الليبرالية في الاقتصاد، مع أن ذلك هو رأس البلاء وسبب الشقاء!
أما بقية البرامج، فهي لا تعدو أن تكون ترتيلا لما نزل على هؤلاء من وحي السفارات الأجنبية بالمفردات نفسها لا يزيدون عن ذلك إلا "فضل" الترجمة، فمن استكمال المحكمة الدستورية وسائر الهيئات الدستورية، إلى تركيز الحكم المحلي، وتكريس اللامركزية الإدارية والسياسية وغيرها، فإن جميع التصورات والرؤى لا تخرج عما سطره الكافر المستعمر، لا يحيدون عن ذلك قيد أنملة، بل إن تجديد الإيمان بالديمقراطية بعد أن كفرت بها الشعوب، صار مقدَّما عند هؤلاء على تعبيد الطرقات وتحسين البنية التحتية وحل مشكلة القمامة التي طالما تشدق بها المترشحون أنفسهم في حملاتهم الانتخابية السابقة.
وعلى ذلك، فإن النموذج التونسي وإن تزعمه الإسلاميون الجدد، و"انبهر" لإعلانه زعماء النفاق الدولي، فإنه لن يكون نموذجا ولا استثناء، بل هو بيع للوهم في سوق الغفلة، وتكفينا نظرة إلى ما اعتبره البعض نموذجا تركيا، لندرك أن وصول الإسلاميين دون الإسلام لا يغير من الأمر شيئا، بل يزيد من مرارة الحيف والضيم، وإلا لما تلذذ أردوغان بـ"الآيس كريم" مع بوتين شريكه في إراقة دماء أهل الشام!
إن الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين من عباد الصليب في مشارق الأرض ومغاربها، لن توقفها مسرحية انتخابات خاطئة كاذبة تقود الناس إلى السراب في بلد يراد سلخه عن أصله وفصله، وعن أمته ودينه، بل ستوقفها قريبا بإذن الله دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
بقلم المهندس: وسام الأطرش-تونس
رأيك في الموضوع