ما أشبه اليوم بالبارحة، فحال تونس اليوم لا يختلف عن حالها يوم تدخّلت فيها الدّول الاستعماريّة في القرن الـ19م وصار البايات (حكّام ذلك الزمان) تحت إمرة القناصل الأجانب، حيث كان القناصل الفرنسيون والإنجليز والإيطاليون يلازمون الباي ووزراءه ويملون عليهم أعمالهم ويضعون لهم السياسات حتّى غرقت البلاد في الدّيون الاستعماريّة وأخضعت ماليّتها لرقابة "الكوميسيون" المالي بإشراف من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا... ثمّ كان الاحتلال سنة 1881م.
أمّااليوم فالمسؤولون من الدّول الاستعماريّة (بريطانيا وأمريكا وفرنسا) لا يكادون يغادرون البلاد، كلّما ذهب مسؤول خلفه آخر، وصار من المألوف في تونس أن ترى سفيرة بريطانيا في حيّ من أحياء العاصمة تشارك شبابا إنشاء إذاعة محليّة على الإنترنيت أو تراها في بلدة صغيرة في شمال البلاد تفتتح مركز أمن نموذجيّا أو تراها في جنوب البلاد، في صفاقس تزور حقلا للغاز والنّفط أو في تطاوين تجتمع بجمعيّات هناك... ولا يغيب سفير أمريكا الجديد عن المشهد، فمنذ تعيينه في كانون الثاني/يناير 2019 وهو لا ينفكّ يلتقي المسؤولين، ثمّ انطلق في جولة عبر البلاد يجوبها طولا وعرضا؛ فذهب إلى مدنين ليشارك في افتتاح مكتب جهويّ للجنة مكافحة الفساد، ثمّ انتقل إلى مدينة قبليّ في عمق الجنوب ليزور البلديّة هناك ثمّ ينتقل إلى مدينة توزر في الجنوب الغربي ليزور "مدرسة" للصناعات التقليديّة،... أمّا السفير الفرنسي فتراه في كلّ مكان وبكلّ زيّ حتّى صار موضع تندّر التونسيين...
نعم استبيحت البلاد وصارت مرتعا للدّول الاستعماريّة، لسفرائهم يجوبون البلاد كحكّام وأصحاب قرار، فهم في جولاتهم يقدّمون مساعدات ويعقدون الاتّفاقيّات، ويعاودون الزيارة لمتابعة الاتّفاقيّات. أمّا الفئة الحاكمة فتفتح لهم الأبواب فتحا وتسهّل زياراتهم وتحميهم، وفرضت هذه الدّول الاستعماريّة وبخاصّة بريطانيا على الحكّام في تونس اتّفاقيّات تضمن لها التدخّل المباشر في سياسة البلاد تخطيطا وتشريعا وتنفيذا؛ فعقدت بريطانيا اتّفاقيّات استراتيجيّة مع تونس في مجالات حسّاسة، إذ عقدت اتّفاقيّة إعادة هيكلة مصالح رئاسة الحكومة وعقدت اتّفاقيّة استراتيجيّة أمنيّة مع وزارات الدّاخليّة والماليّة والتربية والتعليم العالي والدّفاع وحقوق الإنسان، وكلّها اتّفاقيّات تجعل بريطانيا تتغلغل في مفاصل الدّولة وتجعل لها اليد الطّولى في التخطيط والتشريع والتنفيذ.
ولم تغب أمريكا عن المشهد ففرضت على تونس أن تكون عضوا غير حليف في حلف النّاتو وفرضت فتح مكاتب مخابرات في تونس لتجعل منها قاعدة للتجسّس على المنطقة ومنطلقا وقاعدة تتخذها موطئ قدم في الإشراف القريب على شمال أفريقيا، ولقد مكّن حكّام تونس أمريكا من مطار عسكريّ في قاعدة سيدي أحمد ببنزرت يطيّرون منها طيّاراتهم دون طيار لمراقبة الجزائر وليبيا.
أمّا عن الناحية الاقتصاديّة فقد أدّت "نصائح الأصدقاء الأوروبيين والأمريكان" إلى إغراق البلاد في ديون مهلكة وصارت أموال تونس تحت رقابة أشد وشروط أقسىمن البنك وصندوق النقد الدوليين. وصارت بعثات صندوق الخراب الدّولي دوريّة دائمة تراقب وتتفقّد ثمّ تأمر، وهذا يعني أنّ تسيير البلاد صار بأيدي "خبراء" بل خبثاء صندوق النّقد والبنك الدولييّن، يضعون القرارات ولو كانت مثيرة للسخط والاحتجاجات، والأخبار الأخيرة المتسرّبة من اجتماعات الربيع في واشنطن تنذر بكلّ شرّ، فالبنك الدولي "منزعج" من شركة الكهرباء مما يعني قرب وضع اليد عليها، والمفاوضات مع الاتّحاد الأوروبي حول الاتّفاق الشامل والمعمّق في مراحلها الأخيرة رغم تحذيرات جميع الخبراء وإجماعهم أنّها اتّفاقيّة ستجعل تونس وفلاحتها وأهلها تحت (رحمة!) الأوروبيين...
والخلاصة أنّ الفئة الحاكمة في تونس جعلت البلاد تحت الوصاية الاستعماريّة الكاملة:
فمجلس النواب دوره وضع التشريعات اللازمة لما تتخذه القوى العالميّة من قرارات، أمّا الحكومة فليس لها من دور إلا تنفيذ ما يطلبه المستعمر، وكلّما عجزت حكومة عن تنفيذ سياسات الغرب وتأمين مصالحه. استبدلوهالاتخاذ "القرارات اللازمة وزعموا أنّ:"غياب الجرأة لدى الحكومة في تحمل المسؤولية هو ما سبّب تعطل شركات الإنتاج وحقول نفط... وتوقّف إنتاج الفوسفات، وهو ما عطّل تنفيذ ما يزعمونه إصلاحات كبرى"، ممّا يعني أنّ مهمّة أيّ حكومة ليست لإنقاذ أهل تونس من سوء الرعاية والإهمال بل تتركّز مهمّتها في "إنقاذ" شركات النّفط الاستعماريّة واستئناف نهب فوسفات الحوض المنجمي وقمع كلّ محتجّ يُطالب بحقّه في ثروة بلده. وما زالت الأنباء تأتينا هذه الأيّام بخبر إكمال الاتّفاق الكارثة "اتّفاق الشراكة المعمّق مع الاتّحاد الأوروبيّ" الذي سيُمكّن الأوروبيين من الهيمنة على القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات بشكل كامل. ولقد وعد رئيس الحكومة في زيارته لأوروبا في نيسان/أبريل 2018 أنّ تونس ستوقّع الاتّفاق في سنة 2019. وستنطلق في 29/04/2019 "استشارة وطنيّة" حول هذا الاتّفاق في خطوة أخيرة لتمريره بذريعة أنّ الحكومة لم توقّع قرار الشراكة إلا بعد أن استشارت.
إنّ الفئة الحاكمة في تونس (حكومة ومعارضة) هم الأزمة. بسبب عقليّة العبوديّة التي نشأوا عليها فهم منبهرون بالغرب يعشقونه عشقا ويرونه النموذج والمقياس، فقد ارتموا في أحضانه بل على عتباته. انسلخوا عن أمّتهم وأعرضوا عن كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم e ورفضوا أن يكون التشريع لله وحده، واتّخذوا من القوانين الغربيّة طريقا ومنهجا، فرئيسهم الباجي قايد السبسي لا ينفكّ يصرّح أنّ القرآن الكريم لا يعنيه، ولكن "عندما يتحدّث أوباما عن تونس ويصفّق أعضاء الكونجرس بقوة فهذا يعني أنّنا على الطريق الصحيح وأنّه لا يجب أن نحيد عن هذا الطريق" (الباجي قائد السبسي، آذار/مارس 2011)هكذا تحدّث الباجي قايد السبسي يوم كان رئيسا للحكومة التونسيّة المؤقّتة بعيد الثورة، وهي قولة تلخّص عقليّة السياسيين في تونس، عقليّة لا ترى سياسة ولا تخطيطا إلا بإشراف الدّول الغربيّة الرّأسماليّة، أمّا الأحزاب السياسيّة فتتنافس في إظهار القرب من دوائر القرار في الدّول الغربيّة، ولا برنامج لها إلا بيان القدرة على ضمان دعم خارجي أوروبيّ أو أمريكي لتونس، أي القدرة على ضمان مصالح أصحاب القرار في الدّول الغربيّة الاستعماريّة.
هذا هو "الطريق الصحيح" الذي يريد الباجي والطّبقة السياسيّة أن تسير فيه تونس: طريق المهانة والمذلّة، طريق استجداء العدوّ، ولقد وصلت المسيرة اليوم على هذا الطريق إلى جعل تونس على شفير الهاوية، بلدا مسخا يتخلّى عن دينه من أجل إرضاء عدوّه، بلدا تابعا ذليلا يكاد أهله يجوعون وبلادهم تزخر بالخيرات، يستجدون الفتات وثرواتهم يسلّمها أشباه الحكّام للشركات الاستعماريّة تنهبها!!
هذا هو الوضع في تونس اليوم، غير أنّ أهل تونس أدركوا خيانة الطّبقة السياسيّة برمّتها (حكومة ومعارضة ومنظّمات)، وما عادوا يثقون فيهم أو ينتظرونهم، بل أعرضوا عنهم إعراضا، وهم الآن يبحثون عن قيادة واعية صادقة مخلصة، وقد بدأوا يتطلّعون إلى حزب التّحرير وقيادته ومشروعه، ولم يبق إلا أن تستجيب الفئة القويّة في المجتمع حتّى ينفض أهل تونس هذه الطّبقة السياسيّة البائسة الخانعة نفض الغبار ويقلعوهم ويقلعوا معهم نفوذ الغرب الكافر المستعمر.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع