إنّ التعامل مع الخُطط الدولية ينبغي أنْ يكون هو الشغل الشاغل للقيادات السياسية الحقيقية التي تتولّى شؤون الأمّة، فلا قيمة لأعمال السياسيين إنْ لمْ تُعنَ بكشف الخطط التي تضعها الدُول المُعادية لهم، ولا مُستقبل للدول إنْ لمْ تُعطِ لهذا الكشف الأهمّية اللازمة.
والإسلام فرض على المُسلمين القيام بالأعمال السياسية المُتعلّقة بهذا الموضوع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾، ومواضيع الأمن والخوف تتعلق بالصراع مع الأعداء، وبضرورة الظفر عليهم، وتجنب الفشل والهزيمة، وهذا يحتاج إلى استنباط وتفكير وتحليل، أي يحتاج إلى قُدرات خاصة يتمّ توظيفها لخدمة الدولة والأمّة، يقول الطبري رحمه الله في تفسيره لآية ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾: "الَّذِينَ يُنَقِّرُونَ عَنْ الْأَخْبَار"، ويصفهم بــ: "أُولِي الْفِقْه فِي الدِّين وَالْعَقْل".
والإسلام حدّد الزاوية الخاصة التي يُنظر من خلالها إلى العالم، وهذه الزاوية هي العقيدة الإسلامية، كما حدّد زوايا العمل المُتعلقّة بتحديد الأعداء الرئيسيين، وكيفية مُواجهتهم، والانتصار عليهم.
فالزاوية عندنا هي العقيدة والمبدأ ونشر الإسلام، وأي زاوية أخرى غير ذلك كالقومية أو الوطنية لا تعني إلا الانحطاط السياسي، ولا تؤدي إلا إلى الاستسلام للقوى الكبرى المُستعمرة، كما هو حال الدول القائمة في العالم الإسلامي اليوم.
وبما أنّ النظرة المبدئية هي نظرة عالمية مُنْطلقة من قاعدة إسلامية فكرية سياسية صلبة، فإنّ تتبع الخطط الدولية، وكشفها، أمرٌ لا بُدّ منه لمن يحمل هذه العقيدة، ولمن يرنو إلى حمل دعوة الإسلام إلى العالم، وإنّ ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب.
والرسول e قدّم لنا أروع الأمثلة السياسية في كشف الخطط والمؤامرات الدولية، وصدّها وإحباطها، فمثلاً عندما جاءته أخبار عن خطة قريش للتحالف مع يهود خيبر لمهاجمة المدينة والقضاء على الإسلام، بادر من فوره إلى اتخاذ إجراءات سياسية عاجلة، فقام أولاً بالتأكد من تلك الأخبار عن طريق العيون والعسس (الاستخبارات العسكرية)، ثمّ رسم في المُقابل خطةً سياسيةً مُحكمة في مُواجهة خطة قريش، وإفشالها، فاتخذ من سياسة السلم والتفاوض مع قريش هدفاً سياسياً مؤقتاً له، وقبل بشروط قريش بالرغم من أنّها مُجحفة، وبالرغم من مُخالفة كبار الصحابة لها، ووقّع معها صلح الحديبية، فكان فتحاً مُبيناً، وحقّق أهدافه المرجوة والمُتمثلة بكسر حلف قريش/خيبر، وفض الشراكة بينهما، وذلك بفصل القوتين الكبيرتين لهما عن بعضهما، ومن ثمّ الاستفراد أولاً بخيبر وسحقها، وإضعاف قريش وعزلها، تمهيداً للقضاء عليها.
والدول الكبرى في هذه الأيام - كما هي حال شبيهاتها في كل زمان - لا تتوقف عن وضع الخطط التي من شأنها إضعاف خصومها، والحفاظ على مصالحها، وبسط نفوذها، وتمرير أجندتها عبر حلفائها وعملائها ووكلائها، فمثلاً انسحاب أمريكا المُفاجئ من سوريا، هو خُطّة سياسية ترمي إلى تحقيق عدة أهداف منها:
1- تثبيت أركان نظام بشار الأسد وتسليمه فيما بعد مناطق النفط والغاز شرق الفرات ليتمكّن من الحصول على التمويل اللازم لتقف دولته على قدميها، وتقوم بأداء الحد الأدنى من الإنفاق على حاجاتها الضرورية، وكأنّ أمريكا التي سيطرت على مناطق شرق الفرات الغنية، وطردت القوى المُعارضة منها، احتفظت بها مُدةً من الزمان ريثما يقوى النظام، ثمّ تقوم بإعادة تسليمها إليه.
2- وضع المناطق الشمالية من سوريا تحت سيطرة تركيا للاستمرار في قيامها بدور الضابط والمُتحكم بفصائل المُعارضة، ومنعهم من القيام بمهاجمة قوات النظام، وإبقائهم في سجن كبير تحت السيطرة التركية، وتهديدهم بين الفينة والأخرى بالقوة الروسية، وإجبارهم على الالتزام بالاتفاقات التي أبرمت بين الدول (الضامنة) وهي روسيا وتركيا وإيران، وتخويفهم من مغبة الخروج عليها.
3- استخدام الورقة الكردية وورقة تنظيم الدولة كتكتيكات سياسية لاستخدامها عند الحاجة في تثبيت رؤيتها، والتلاعب بعملائها، وتنصيب نفسها حكماً على اللاعبين المحليين والدوليين في سوريا.
4 – إضعاف الأدوار التي تقوم بها فرنسا وبريطانيا بعد انسحابها.
5- استخدام ورقة المُعارضة السورية المُرتمية في أحضان تركيا في مُفاوضات مُستقبلية للمُطالبة بإخراج روسيا من سوريا، وإخراج مُعظم قواعدها.
6- تمكين إيران ومليشياتها من الاستمرار بتقديم المُساعدات اللازمة لنظام بشار، وتقليص دور كيان يهود في سوريا إلى الحد الأدنى.
هذه هي أهم أهداف أمريكا في سوريا اعتماداً على قرار ترامب سحب الجنود الأمريكيين من سوريا خلال الأشهر القادمة، وما كانت هذه الأهداف لتتحقق لولا تعاون روسيا وإيران وتركيا والسعودية مع أمريكا، فلا قوة لأمريكا خارج حدودها إلا من قوة عملائها وحلفائها.
فهذه الدول قد تآمرت على الثورة، واشترت الكثير من قياداتها الخونة الذين بدورهم قاموا بتسليم المناطق المحررة للنظام على طبق من ذهب، والحقيقة أنّه لم يصمد النظام، ولم يتمكن داعموه من الروس والإيرانيين من بسط نفوذ المجرم بشار الأسد على الأراضي المُحررة إلا من خلال تعاون قادة الفصائل الذين باعوا نضالات الثوار بثمنٍ بخس، فالذي قام بمُساعدة النظام بالدرجة الأولى ليست روسيا ولا إيران ولا مليشياتها، وإنّما هم قادة الفصائل الذين قبلوا بأنْ يكونوا أدوات رخيصة بأيدي السعودية وتركيا والأردن وغيرها.
لذلك كان لا بُدّ لمريدي التغيير من تبني مشروع الإسلام العظيم بشكلٍ واضح، كما لا بُدّ من قطع جميع علاقات الثوار مع تركيا والسعودية ودول الجوار المُتآمرة ضد الثورة مع نظام الطاغية بشار، وعليهم أنْ لا يتراجعوا عن ثوابت التغيير الحقيقي مُطلقاً، وأهمّها تصميم الثوار على إسقاط النظام بكل أركانه ومؤسساته ورموزه، وإقامة دولة الإسلام على أنقاضه.
رأيك في الموضوع