ذكرنا في الجزء الثالث من أسباب الصراع؛ وجود الثروات في الأردن في أرضه ومياهه، ونريد في هذا الجزء إلقاء نظرة تاريخية على كيفية بروز الصراع الإنجلو-أمريكي، والذي هناك من يعتبره ضرباً من ضروب الخيال للأسف لسوء الفهم السياسي عند بعضهم أو للتضليل عند آخرين، أو بسبب خفاء الصراع أحياناً، إذ قد يكون الصراع السياسي بين الدول ظاهراً قوياً، وقد يكون خفياً دقيقاً، وهذا الخفاء لا يعني عدم وجوده، ولكنه يحتاج إلى عقليات سياسية جبارة تكشف مواطن الصراع والتضليل الممارس على الأمة، فنقول وبالله التوفيق:
ألقى الرئيس أيزنهاور بيانه المنتظر أمام الكونغرس بتاريخ 5/1/1957م بعد الضجة المقصودة التي أثيرت حوله مدة عشرة أيام شغل العالم أثناءها بهذا البيان وبانتظاره، كما أشغلوا العالم بالمعلومات التي أعطيت عن قصد ليبحثها الناس بغية الاطلاع على صداها وعلى مبلغ تجاوب الناس أو عدم تجاوبهم معها.
والبيان عبارة عن مشروع دفاع يضع الشرقين الأدنى والأوسط تحت حماية أمريكا، وهو أخطر بيان سياسي وضع عن الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية حتى تاريخه، فقد نقل حدود أمريكا الدفاعية من مكانها ووسعها؛ فوضع الحدود الدفاعية لأمريكا على حدود الشرقين الأدنى والأوسط، الشرقية والجنوبية، وجعل العالم الإسلامي داخل هذه الحدود الدفاعية.
فبتاريخ 28/12/1956م كتبت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعلاقاتها شبه الرسمية بوزارة الخارجية الأمريكية مقالاً مهماً تحدثت فيه عما يدور في البيت الأبيض وفي وزارة الخارجية الأمريكية بشأن الشرق الأوسط وضمان استمرار السلام فيه، وقد وردت في هذا المقال أفكار عدة تلفت النظر، تقول الجريدة: "إن الرئيس أيزنهاور يدرس الآن مع كبار معاونيه الحصول على إذن من الكونغرس لاستخدام القوات الأمريكية المسلحة على الوجه الذى يراه ضرورياً للمحافظة على الأمن والسلام في الشرق الأوسط". فأمريكا تريد استخدام القوة لفرض إرادتها ووجودها في المنطقة. وقد سبقها سياسة الرئيس الأمريكي مونرو الذي أعلن للعالم مبدأ مونرو، وجعل من الأمريكيتين منطقة نفوذ خالصة لأمريكا ومنع الصراع الدولي عليها، ثم انتقلت أمريكا إلى تركيا واليونان، حيث أعلن الرئيس ترومان في عام 1947م سياسته بشأن اليونان وتركيا، وأطلق على هذه السياسة "مبدأ ترومان"، وكانت تقوم هذه السياسة على مساعدة اليونان وتركيا بالمال والعتاد للمحافظة على استقلالهما ضد أي اعتداء كان سواء من الداخل أو الخارج، وحلت أمريكا محل بريطانيا في اليونان وتركيا تحت حجة عدم قدرة بريطانيا على الوقوف في وجه الاتحاد السوفيتي، وعلى أساس هذه السياسة نفسها أعلن الرئيس أيزنهاور سياسته التي أطلق عليها "مبدأ أيزنهاور" ليمنع تحرير البلاد الإسلامية من الاستعمار القديم، وليحول بينها وبين أن تصبح قوة دولية لها أثرها في سياسة العالم، وقد بلغ أيزنهاور في استراتيجيته "مبدأ أيزنهاور" هذه حداً جاوز فيه سابقيه؛ فهو لم يكتف بإعلان منع التدخل الأجنبي كما فعل مونرو ولم يقتصر على إعلان المساعدة بالمال والعتاد كما فعل ترومان، بل جعل هذه السياسة شاملة كل عناصر الحماية والاستعمار، فوضع الشرق الأوسط تحت حماية أمريكا لتحل بنفوذها واستعمارها محل النفوذ والاستعمار البريطاني والفرنسي.
وأمريكا علاوة على أن جشعها وحبها للسيطرة وبسط النفوذ هو الذي يدفعها إلى إعلان هذه السياسة، فإن سيرها كذلك على سياسة توازن القوى آنذاك يجعلها حريصة على كسب الشرق الأوسط قوة هائلة لها، لذلك صارت تزعم أن في الشرق الأوسط فراغاً بسبب ذهاب نفوذ بريطانيا منه وضعفها والاستعمار القديم كله وأنها لا بد أن تسد هذا الفراغ، وقد كررت أمريكا استعمال كلمة "الفراغ"، وهذه الكلمة كثيراً ما كانت تكررها بريطانيا سابقاً من أجل تثبيت استعمارها في المنطقة وغاية الدولتين واحدة هي استعمار المنطقة بحجة ملء الفراغ خاصة في العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) بعد القضاء على الدولة الإسلامية، والذي هو مادة خام اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ويعتبر قوة لها وزنها الثقيل بين قوى العالم، وهو من أكبر القوى في العالم من حيث إمكانياته وبإمكانه بسهولة ويسر أن يكون قوة ذاتية كبرى وعالمية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً إذا قامت فيه دولة واحدة، فكيف لو قامت فيه دولة الخلافة الراشدة؟ والتي ستكون عالمية وخطراً وجودياً على القوى العالمية الأخرى.
إذاً كانت حجة أمريكا أن في منطقة الشرق الأوسط فراغاً كبيراً ومن الواجب سده، وهي تعمل لسد هذا الفراغ مراعية كافة العوامل التي تواجهها، فتراعي القوميات وتشيع بعض الآمال التي تطمح الشعوب لها، وتتناسق مع التزاماتها في الجهات الأخرى من العالم، وهي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تحاول إيجاد نفسها في الشرق الأوسط وتعتبر أن فيه فراغاً، ولكن كانت مراعاتها لصداقتها الوطيدة لبريطانيا وارتباط استراتيجيتها معها كدولة حليفة قوية ضد الاتحاد السوفياتي تجعلها تدخل في الشرق الأوسط عن طريق المناورات السياسية، ولما رأت انهيار بريطانيا سارعت فجأة إلى إعلان هذه السياسة الاستعمارية في بيان الرئيس أيزنهاور واعتبرتها ضرورية لسد الفراغ الذي تزعمه لتأمين مصالحها التي أصبحت مترامية في أكثر نواحي المنطقة، ولتوسيع هذه الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط في المحافظة على البترول، وفي تأمين طرق المواصلات الاستراتيجية البحرية والجوية في الدرجة الأولى ثم البرية في الدرجة الثانية، وفي إرساء دعائم كيان يهود كدولة قوية وكدولة أوروبية لا كدولة من دول الشرق الأوسط، وفي المشاريع والأسواق الاقتصادية التي تحقق نمو الاستثمار الأمريكي، ولذلك صارت تعتبر أن كل تهديد للسلام والأمن في هذه المنطقة سواء أكان من الداخل أم من الخارج بمثابه تهديد لسلامة أمريكا، وصارت ترى ضرورة ارتباط سلامة الشرق الأوسط بسلامة الحلف الأطلسي، ولذلك بدأت منذ سنة 1949م تعمل لإيجاد مشاريع دفاع عن الشرق الأوسط تضمن سلامة المنطقة من عدوين يهددان مصالحها؛ عدو واقع وحقيقي، وإمكانية قيام دولة مبدئية لطبيعة أهل البلاد وما يحملونه من مبدأ عظيم وهو الإسلام وطريقته بالحياة وهو الكيان السياسي (الخلافة) والوحدة، ولا زالت هيبة وقوة الخلافة في عقول الغرب الكافر لم تفارق عقولهم، ولا زالت أمريكا تدرك معنى قيام دولة مبدئية في المنطقة فلقد أذلت هذه الأمة الأسطول الأمريكي. وقد اضطرت أمريكا إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في 5 أيلول/سبتمبر 1795م تدفع بموجبها واشنطن مبلغ (62 ألف دولار ذهباً) للجزائر لقاء حرية المرور والحماية لسفنها في البحر المتوسط، وتضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية. وعدوٌ آخر محتمل وهو الاتحاد السوفياتي.
ومما لا شك فيه أن الأردن كان في قمة هذه الاستراتيجيات الأمريكية لكونه القاعدة الإنجليزية العريقة وقوة الإنجليز فيها، ولكونه على أطول الحدود مع كيان يهود.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع