عاشت تونس يوم 17 كانون الثاني/يناير على وقع إضراب عام في الوظيفة العمومية شمل كل المرافق العمومية حيث شلت الحركة وبدت محطات الأرتال والمترو والحافلات مقفرة من الموظفين والأعوان والمارة وخلت المدارس من تلاميذها وأوصدت المؤسسات العمومية من إدارات وهياكل أبوابها.
إضراب عام تحت عنوان "إضراب السيادة قبل الزيادة" نفذه الاتحاد العام التونسي للشغل بعد أن أعلن فشل المفاوضات مع الحكومة حول زيادات في أجور الموظفين العموميين متهما صندوق النقد الدولي بفرضه على الحكومة التونسية قرارات معينة تتعلّق بأجور الموظفين العموميين بتونس، وقد أكد سامي الطاهري عضو المكتب التنفيذي للاتحاد أن "الوفد الحكومي الذي تفاوض مع الاتحاد بشأن الزيادة في الأجور كان على اتصال دائم بإدارة مجلس صندوق النقد الدولي لاستشارته". واعتبر المسؤول النقابي ذاته أن "صندوق النقد الدولي انتهك السيادة التونسية بفرضه إملاءات على حكومة يوسف الشاهد".
اتحاد الشغل ورغم توجهه النقابي إلا أنه لم يكن بعيدا عن المشهد السياسي في تونس، فقد كان زمن بن علي رغم نضالات شريحة مهمة من قواعده الجهوية أداة لامتصاص غضب الجماهير بل حتى إن بعض قادته كانوا يبيضون صورة بن علي خاصة في أحلك فترات الدكتاتورية، ثم لعب أدوارا مختلفة بعد الثورة وكان ورقة ضغط قوية على حكومة الترويكا بحكم توجه مبدئي عرف بقربه من اليسار وهددها مرات عدة بالإضراب العام إلى أن تحول إلى طرف من الأطراف الراعية للحوار الوطني الذي انبثقت عنه حكومة المهدي جمعة في سنة 2014، مرر في عهدها أغلب القرارات التي فرضها صندوق النقد، وتم تجديد عقود شركات نهب الطاقة مثل بريتش غاز.
اتحاد الشغل أيضا كان طرفا موقعا على وثيقة قرطاج التي تعينت على إثرها حكومة الشاهد وقد ضمت حينها نقابيين كتوسيع للحزام السياسي والتمثيل الحزبي، لتبدأ بعدها تصريحات قادة الاتحاد الرافضة لمقترحات الحكومة في تأجيل الزيادات التزاما بشروط صندوق النقد الدولي رغم أن الطبوبي أمين عام الاتحاد كان قد التقى بنفسه مع بعثة صندوق النقد في 13 نيسان/أبريل 2017 وصرح أن كل البوادر تبشر بالخير حينها، وارتفعت حدتها بعد أن ظهر الخلاف بين الشاهد وبين ابن الرئيس حافظ قائد السبسي ثم مع الرئيس الذي دعاه للاستقالة من رئاسة الحكومة لكنه رفض.
واليوم تتواتر تصريحات قادة الاتحاد عن عزمهم الترشح لانتخابات 2019 ولعب أدوار سياسية مباشرة خاصة في الانتخابات التشريعية بين احتمال تشكيل قوائم خاصة أو عبر دعم أطراف حزبية.
الاتحاد حتى وإن تظاهر برفضه لبعض شروط صندوق النقد فيما يتعلق بالزيادات إلا أنه لم يرفض أن تكون هذه المنظمة الاستعمارية مهيمنة على سيادة البلد بالشروط الأخرى حتى وإن ادعى ذلك اليوم، ولم يدع إلى الإضراب العام ضد اتفاقيات التفريط في الثروات أو ضد اتفاقية التبادل الحر الشامل المعمق الآليكا الذي تعتزم الحكومة توقيعه مع الاتحاد الأوروبي رغم ما يمثله من خطر على اقتصاد البلاد وعلى أمنها الفلاحي والغذائي.
ثم إن المطالبة برفع الأجور وإن كانت مقبولة وضرورية اليوم فإنها تقتضي استرجاع الثروات لإيجاد التمويلات اللازمة، وهذا ما لم نسمعه يوما من الاتحاد، فأنصاف المواقف لا تقدم الحلول بل هي عنوان للمتاجرة ولعب الأدوار.
فحتى الاحتجاجات التي شهدتها الكامور أو مدينة دوز وغيرها ضد الشركات الاستعمارية وتخللتها اعتصامات أقامها شباب المناطق واستمرت طوال شهور كان دور الاتحاد فيها دور الوسيط مع الحكومة والشركات وبالضغط على المحتجين بوعود تشغيل لم تنفذ أغلبها إلى اليوم.
أزمة الحكم في تونس أصبحت معلنة من جميع الأطراف باختلاف مواقعهم، فعدم قدرة أي حكومة على الاستمرار أصبحت مسألة بديهية لنفاد عناوين الخداع وتطويع الناس، فقد تجاوزت كل المؤشرات الخطوط الحمراء وبات ضنك العيش وقساوة الظروف أمرا يعيشه أغلب الناس.
وعدم ثقة الناس في كل النخب السياسية بات أمرا محسوما اليوم حتى يثبت أي طرف أنه في اتجاه القضايا الحقيقية بعيدا عن تنفيذ أجندات خارجية والسعي لمصالح شخصية أو حزبية، فمن يريد ثقة الناس لا بد أن يكون في مستوى السقف المطلوب بعد سنوات من ثورة طالبت أولا بإسقاط النظام ثم تتالت مطالب التحرر من الاستعمار باسترجاع الثروات وإيقاف ماراثون المديونية ومنع الدول الأجنبية وسفاراتها من انتهاك سيادة البلد وعزة أهله بجد وعزم وثبات.
بقلم: الأستاذ محمد ياسين صميدة
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع