بعد كل مرحلة مفصلية تمر فيها الثورة السورية لا بدّ لنا من الوقوف هنيهة، كي نقرأ المشهد بموضوعية، ونلقي الضوء على بعض أهم الأحداث، ثم نركّز النظر على مواضع الخطر، ونقدم ما نراه من الحلول الناجعة، علّ الله يهدي المخلصين من أصحاب القرار، فيعودوا بالثورة إلى طريقها الصحيح.
فبعد تجميع كل من رفض مصالحة النظام في الشمال الغربي المحرر، استمرّت عجلة الاقتتال الداخلي في المنطقة بالدوران، وعلى نحو مفاجئ سقطت أمام هيئة تحرير الشام كل من حركة نور الدين الزنكي وحركة أحرار الشام، لتتبع مدن الأتارب وأريحا والمعرة لإدارة ما تسمى بحكومة الإنقاذ في إدلب بدون مقاومة حقيقية، ويُخرَج إلى عفرين قادة وأبرز جنود الحركتين المناوئتين، وتسيطر الهيئة فعلياً على عموم المنطقة، رغم وجود بعض الفصائل الأخرى تركية الهوى إخوانية التوجه كفيلق الشام، أو سلفية المنشأ قاعدية الانتماء كحراس الدين.
ولفهم المشهد جيداً نعود خطوتين إلى الوراء، لنذكر أن نواة هيئة تحرير الشام كان فصيل جبهة النصرة، الذي انشق عن تنظيم دولة العراق الإسلامية وأعلن تبعيته لتنظيم القاعدة، ثم ما لبث أن خلع ثوبه المزركش الذي كان يتباهى به على جميع فصائل الثورة، وترك تنظيم القاعدة نتيجة خضوعه لترغيب المجتمع الدولي بإمكانية الرضا عنه إن هو فعل ذلك، وترهيبه من خطر التصنيف بالإرهاب إن هو استمر بالعمل تحت هذا العنوان المخيف. ثم خطا هذا الفصيل خطوة ثالثة فاجتمع مع فصائل عدة مشكلاً هيئة تحرير الشام، التي اتصلت مع الأتراك، وأخذت على عاتقها إدخالهم إلى الداخل المحرر، بعد أن اتفقوا مع الروس والإيرانيين على الدخول بقواتهم إلى الشمال الغربي، وضمان عدم شن المجاهدين لأي عمل عسكري على النظام، تنفيذاً لاتفاقات أستانة، بضرورة إقامة منطقة خفض تصعيد في هذه المنطقة.
ثم جاء الاقتتال الأخير بين الهيئة والزنكي بعد اتفاق سوتشي - المرفوض شعبياً - بين بوتين وأردوغان، الاتفاق الذي جاء تنفيذاً لإرادة أمريكا بضرورة إنهاء الثورة بصمت، وتسليم المنطقة إلى النظام من دون قتال، من خلال القيام بثلاثة أعمال قاتلة، يكفل كل واحدٍ منها الإجهاز على الثورة بمفرده فكيف بها مجتمعة؟! لقد كانت أهم بنود اتفاق سوتشي هي إقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح بين النظام والثوار، ونزع السلاح الثقيل من أيدي المجاهدين، وفتح طريقي حلب - دمشق وحلب - اللاذقية أمام النظام، مما يبيح المنطقة كاملة وأهلها أمام أي هجوم محتمل للنظام. في هذه الأثناء يأتي الاقتتال الأخير، وتسيطر الهيئة على عموم المنطقة، في ملابسات تُظهر أن تركيا راضية جداً عن هذه السيطرة. فما مؤشرات ذلك؟!
هل تعهدت الهيئة لتركيا بتنفيذ بنود اتفاق سوتشي المشؤوم إن هي سمحت لها بالسيطرة على المنطقة، خصوصاً وأن الفصائل الأخرى كانت أضعف من أن تستطيع فعل ذلك؟! وبالتالي تكون الهيئة قد تعهدت بإنهاء نفسها قبل أن تستطيع إنهاء الثورة، لأنها حينها ستكون في صدام مباشر مع الناس من أهل الثورة، الذين سيواجهونها حينها بكل ما يملكون غير آبهين بالنتائج، ولن يسمحوا لها بتسليمهم وتسليم ثورتهم وتضحياتهم إلى النظام لقمة سائغة.. هل تعهدت الهيئة بذلك؟! أم أن تركيا ومن ورائها أمريكا استدرجوا الهيئة إلى السيطرة على المنطقة، مع علمهم بطبيعة تركيبتها الفكرية، وتوقعهم أنها إذا سيطرت فستسيء بطبيعتها إلى الناس، وما إرهاقها الناس بالرسوم والضرائب والمكوس، إلا مؤشر خطير يشير إلى سوء الأوضاع المعيشية التي سيعانيها الناس تحت حكم الهيئة مستقبلاً؟! ومن ثم تأتي تركيا بأزلامها الآخرين الذين أخرجتهم بالأمس إلى عفرين، وتزيل بهم سيطرة الهيئة، بعد أن تفقد الأخيرة كل مناصر لها من الناس، ولا يبقى حولها إلا المنتفعون، ثم لا تجد بعد زوالها من يترحّم عليها. وينتهي المشهد بقرار من الأمم المتحدة بخروج تركيا فتخرج، ويدخل النظام على شعب تم إنهاكه وقتل روح الثورة لديه.
شخصياً فإنني أرجح، بل وأكاد أجزم بالاحتمال الثاني، وأظن أن سيطرة الهيئة على المنطقة كانت باستدراج لها من تركيا، ومن ورائها أمريكا. وكي لا نسمح لأعداء الثورة بإكمال مخططهم المرسوم، وضرب الثورة في مقتل، فإنني أتوجه من هذا المنبر الطاهر إلى قادة هيئة تحرير الشام قائلاً: ألغوا مهزلة إدلب، وأعيدوا السلطان إلى الناس الذين أنتم بدونهم لا شيء، فمن تغلّب على أهله لن يرأف به أهله حينما يتغلب عليه من الخارج متغلب، ويعود كالمُنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. واعلموا أن الدول لا تنظر إليكم كأنداد وشركاء، بل لا تنظر إليكم إلا كأتباع ومستخدَمين. وأن السياسة هي بحر لا تجيدون أنتم الخوض فيه، فوسّدوا الأمر إلى أهله، كي لا تَغرقوا وتُغرقوا من معكم. واعلموا أن شرعة المصلحة والمفسدة ليست من الإسلام في شيء، بل هي المهلكة والمقتلة. واذكروا الهدف الذي وجدتم من أجله، ألا وهو إسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام، وأنكم إن رضيتم بما قسموه لكم اليوم ضنّوا به عليكم غداً، ولكم فيمن كان قبلكم عبرة، فانظروا واعتبروا، إني لكم من الناصحين.
بقلم: الأستاذ عبد الحميد عبد الحميد
رأيك في الموضوع