اندلعت الاحتجاجات في فرنسا للأسبوع الخامس مع أنرئيسها ماكرون في خطابه يوم 10/12/2018 أعلن تقديم بعض المساعدات لأصحاب الأجور، منها رفع الحد الأدنى للأجور 100 يورو، وأعلنت حكومته إلغاء زيادة الضرائب على المحروقات التي كانت شرارة انطلاق هذه الاحتجاجات، وأخذت منحى العنف والتخريب. وتبعتها احتجاجات طلابية يوم الثلاثاء تطالب بإصلاحات في نظام التعليم. وقام الرئيس الأمريكي يتشمّت بماكرون والتحريض عليه. وهذا يستدعي التفكير في الدور الأمريكي كما يستدعي التفكير في الجور الذي يعم العالم بسبب النظام الرأسمالي.
ماكرون في خطابه أكد لشعبه "تفهمه" لغضبهم ومحنتهم! مذكرا بزين العابدين في تونس وحسني مبارك في مصر اللذين استعملا لفظة "التفهم" لغضب شعبيهما عليهما ومحنتهما فسقطا! ولهذا قال ماكرون: "إننا في مرحلة تاريخية بالنسبة لبلادنا"، فهو متخوف على مصيره.
وفي هذا الأسبوع ظهرت مطالب سياسية بحتة وحركة "فرنسا الغاضبة" لتنظيم المحتجين سياسيا لإسقاط ماكرون. محتجون قالوا: "نريد المساواة، نريد أن نعيش، لا أن نحيا بالكاد"؛ ففي فرنسا وسائر أوروبا الناس يعيشون بالكاد أي بضيق وضنك، فيحصّلون الأساسيات والضروريات بكل صعوبة. هذا هو التعبير الحقيقي عن الوضع في أوروبا، الناس يعيشون بالكاد رغم المساعدات الخادعة، مع أنها تقتطع من معاشاتهم للضمان (الاجتماعي) وللتأمين الصحي عدا الضرائب المرهقة، فلا يبقى للأجير من أجره إلا القليل، فلا يستطيع تحصيل الكماليات، فإذا أراد تحصيلها فعليه الاستدانة بالربا فيبقى طوال عمره يسدد الديون الربوية. فيتقاضى أجرا يسمى الحد الأدنى للأجور، أي يحسب أجره قرشا قرشا بما يلزمه من أدنى الضروريات والأساسيات بحيث لا يبقى معه فائض، ولهذا أغلب الناس لا يملكون مساكن، فيسكنون في مساكن بإيجار لشركات العقارات، بينما الأغنياء المتمثلون بأصحاب الشركات والبنوك يستأثرون بأكثر ثروات البلاد، ولهذا تعمد المتظاهرون تحطيم نوافذ البنوك وشركات التأمين تعبيرا عن سخطهم على الذين يستأثرون بالثروة. ولهذا وصف الفرنسيون رئيسهم برئيس الأغنياء، حيث يعمل لحسابهم لتتضخم ثرواتهم. وهذا الحاصل في كل العالم الغربي بسبب النظام الرأسمالي الذي آمنوا به، وساد العالم حيث صار هذا النظام مسيطرا بعد انهيار الاشتراكية والشيوعية وفي ظل غياب الإسلام عن الحكم.
وجاء هجوم سالزبورغ بفرنسا يوم 11/12/2018 وسقوط ضحايا بعد يوم من إلقاء ماكرون خطابه وإعلان المحتجين أن إصلاحاته غير كافية وتوعدوه بالتظاهر. فأعلنت الدولة رفع مستوى التأهب الأمني، وطلبت منهم ألا يخرجوا إلى الشوارع احتراما للضحايا وتحسبا لاعتداءات المهاجم مدّعية أنه لاذ بالفرار وهو مصاب! فحامت الشبهات حول دور الحكومة، مما اعتبره المحتجون تآمرا لئلا يواصلوا احتجاجاتهم. فعندها اضطرت الحكومة بعد يومين إلى الإعلان عن مقتل المهاجم وتخريجه إسلاميا مع أنه غير ملتزم بالإسلام وصاحب سوابق عديدة ومعروف لديها! فأصبحوا يعلّقون كل جريمة على المسلمين لتشويه صورة الإسلام ولإرهاب المتذمرين من ظلم نظامهم الرأسمالي، وبدأوا يسنّون قوانين تشمل الجميع ليحافظوا عليه بذريعة محاربة (الإرهاب)، كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن سن قوانين جديدة يوم 14/12/2018.
ومن ناحية ثانية فإن الرأسمالية أتت بالحريات العامة التي جعلت فرنسا مجتمعا مفتوحا ومنحلا انتشرت فيه الرذيلة وكل التوجهات المنحرفة والأفكار السقيمة، وسادته الأنانية وحب الملذات واتباع الشهوات وجمع المال، فوجدت هوة سحيقة بين الناس، فهناك من يملك المليارات وهناك من لا يملك شيئا، وعامة الناس تعيش بالكاد. فوجد مجتمع فاسد غير محصن يسهل اختراقه واللعب فيه، ويمكن للقوى الخارجية أن تؤثر فيه وتحركه. وهذا ما حدث عام 1968، عندما قامت فرنسا ديغول بتحدي أمريكا، فاستطاعت أمريكا بوسائل معينة أن تحرك الطبقة العاملة والطلاب في احتجاجات أدت في النهاية إلى استقالة ديغول. فهناك الشركات الفرنسية الكبرى التي لها ارتباطات مع الشركات الأمريكية، وهناك تنظيمات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات والتي يمكن التأثير عليها وسهولة اتصال القوى الأجنبية بها وخاصة الأمريكية. وميتران عام 1981 فاز في انتخابات الرئاسة بتأثير الشركات الكبرى المرتبطة بالشركات الأمريكية. فاتبع سياسة مسايرة لأمريكا في كثير من القضايا. وعندما جاء ماكرون قيل إنه سيتبع سياسة تجمع سياسة ديغول وميتران، أي سياسة ديغولية تعمل على إبراز دور فرنسا العالمي بقيادتها لأوروبا، مع التقارب مع أمريكا كما فعل ميتران حتى تسمح لفرنسا بأن تلعب دورا دوليا يعزز من مكانتها الدولية.
حاول ماكرون اتباع هذه السياسة، ولكن عندما أراد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني قام ماكرون في نيسان الماضي بزيارة أمريكا ولقاء ترامب محاولا ثنيه عن ذلك. فرأى إصرار ترامب فخاب فأله. وأعلن ترامب انسحابه من الاتفاق لضرب مصالح أوروبا، بل طلب ترامب من ماكرون أثناء الزيارة الخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل دعم أمريكي لفرنسا كما ذكر مسؤولون أوروبيون. وبعدها أعلن ترامب الحرب التجارية على الاتحاد الأوروبي، وبدأت المشاحنات والمشاجرات بين الطرفين في قمة السبع بكندا يوم 10/6/2018، وفي قمة الناتو في بروكسل يومي 11 و12/7/2018. فتأكد ماكرون أنه لن يحصل على شيء من أمريكا. فعاد إلى التقوّي بأوروبا وتعزيز التعاون مع ألمانيا لمواجهة أمريكا. وأعلن معها ومع بريطانيا المحافظة على الاتفاق النووي الإيراني.
فظهر الرئيس الفرنسي يتحدى أمريكا، حيث خلال لقائه مع ترامب يوم 9/11/2018 دعا إلى تأسيس جيش أوروبي. فشاط ترامب غضبا فكتب في تويتر: "الرئيس الفرنسي اقترح بناء جيش خاص بأوروبا لحمايتها من الولايات المتحدة والصين وروسيا، وهذا مسيء جدا". وهاجمه في خمس تغريدات مذكّرا بشعبية ماكرون الساقطة وكأنه يدعو لإسقاطه. وقامت المستشارة الألمانية ميركل يوم 13/11/2018 تدعم ماكرون بالدعوة إلى تأسيس جيش ومجلس أمن أوروبيين، ولهذا تعمل أمريكا على ضرب التحرك الأوروبي بزيادة التوتر في أوكرانيا وفي داخل أوروبا لتبقى مهيمنة عليها.
ولهذا تدخل ترامب متشمتا ومحركا لما يحدث في فرنسا فكتب في تويتريوم 8/12/2018: "يوم حزين وليلة حزينة للغاية في باريس، ربما حان الوقت لإنهاء اتفاقية باريس السخيفة والمكلفة للغاية وإعادة الأموال إلى الناس على شكل خفض الضرائب، اتفاق باريس لا يسير على نحو جيد بالنسبة لباريس. مظاهرات وأعمال شغب في كل أنحاء فرنسا...". فطالبه وزير خارجية فرنسا بعدم تدخله في السياسة الداخلية الفرنسية.
وهكذا فالاحتجاجات الفرنسية لا تخلو من دوافع سياسية داخلية وخارجية وخاصة من أمريكا التي لها تجارب ناجحة في فرنسا أيام ديغول وميتران، وقد تدخل رئيسها ترامب مباشرة فلم يستطع أن يخفي فعلته كما هي عادته، ويريد أن يخلخل كل الاتحاد الأوروبي ويسقطه كما أعلن. وكذلك هي نتيجة طبيعية لفساد النظام الرأسمالي الذي يكتوي الناس بناره. فلا حل للعالم إلا بسيادة المبدأ الإسلامي، فنظامه الاقتصادي يحقق توزيع الثروات ويؤمن الحياة الكريمة بنشر القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية ولا يهمل القيمة المادية، وهذا لا يتحقق إلا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع