أثارت حادثة اغتيال جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول اهتماماً كبيراً من قبل الدول الأوروبية، وتحوّل هذا الاهتمام إلى فرصةٍ ثمينةٍ لأوروبا لزعزعة النفوذ الأمريكي في السعودية، ولإثبات دورها في منطقة الشرق الأوسط، فاستغل الأوروبيون الحادثة إلى أبعد حد، وراحت الصحف الأوروبية تنفخ في وسائل إعلامها رأياً عاماً كاسحاً يُطالب بمعاقبة السعودية على جريمتها، ويرفض التستر على الجريمة، ويُركّز على تحميل القيادة السعودية المسؤولية عنها، فطالبت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا السعودية بإجابات "مفصلة وفورية" عن مقتل خاشقجي، وتوالت ردود الفعل الأوروبية المندّدة بشدّة بالرواية السعودية بشأن ما جرى، وتعالت الأصوات داخل أوروبا للمطالبة بالمزيد من التحرك لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه السعودية، فكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أسرع القادة الأوروبيين تحركاً في هذا الشأن، فأوقفت كل صادرات السلاح الألمانية للسعودية، وأكّدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أنها أبلغت الملك سلمان بأن تفسير السعودية لمقتل خاشقجي "يفتقد المصداقية"، وكانت ماي قد أكّدت من قبل أمام مجلس العموم البريطاني بأنّ حكومتها ستمتنع عن المشاركة في منتدى "دافوس الصحراء" بالسعودية، وأعلن عدد من أقطاب التجارة والإعلام البريطانيين انسحابهم من المُنتدى احتجاجاً على مقتل خاشقجي، وعلى رأسهم الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون الذي علّق كل نشاطاته التجارية مع السعودية، بما في ذلك استثمارات بقيمة مليار دولار في شركة فيرجين أتلانتيك، ولعلّ هذا الانسحاب البريطاني المُبكر من المُنتدى كان الدافع لسائر الدول الأخرى لمُقاطعته، واتخذ وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت تدابير ضد المشتبه بهم لمنعهم من دخول بريطانيا، وقال: "العالم ما زال في انتظار الأجوبة بشأن مقتل جمال خاشقجي".
وأمّا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقد عبّر في اتصال له مع الملك سلمان عن غضبه الشديد إزاء مقتل خاشقجي، وقالت الرئاسة الفرنسية في بيان لها إنّ ماكرون دعا إلى كشف ملابسات القضية كاملة، ونقلت قوله إن باريس "لن تتردد في تنفيذ عقوبات دولية على المسؤولين عن مقتل خاشقجي عبر التنسيق مع الشركاء".
فالدول الأوروبية الثلاث الكبرى بريطانيا وفرنسا وألمانيا كانت ومُنذ بداية ظهور الجريمة قد طالبت بــ"رد تفصيلي وكامل" عليها، وشدّد البيان الصادر بعد اجتماعها على "ضرورة وجود تحقيق موثوق لكشف حقيقة ما حدث، وتحديد المسؤولين عن اختفاء خاشقجي ومحاسبتهم".
وأمّا على مُستوى الاتحاد الأوروبي فقد حذّر رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك دول الاتحاد الأوروبي من مغبة السقوط فيما أسماه بــ"دائرة النفاق" في ملف مقتل خاشقجي، مؤكدا أنه يتوقع من دول الاتحاد ومؤسساته تجنب أي "لعبة مُريبة"، في إشارة منه إلى مخاوفه من تغليب المصالح الاقتصادية على المصالح الحقيقية، وتحدّث توسك لأعضاء المجلس الأوروبي فقال: "إنّ أي مجاملات في الحديث عن هذه القضية يمثل مصدر خزي لنا"، وأضاف: "ليس دوري أن أتحدث عن أولئك الذين يريدون حماية مصالحهم، لكني أعرف شيئاً واحداً، وهو أن المصلحة الأوروبية الوحيدة هي كشف ملابسات هذه القضية بغض النظر عن المسؤولين عنها ومن يقف وراءهم"، كما دعت مسودة قرار للبرلمان الأوروبي إلى إجراء "تحقيق دولي ومحايد في قضية خاشقجي"، وطالبت بــ"التعليق الفوري لعضوية السعودية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة"، وبإنشاء "لائحة خاشقجي" التي تتضمن كل المتورطين في الجريمة لفرض عقوبات عليهم، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية فيدريكا موغريني إنّ "قتل صحفي واحد هو اعتداء على حرية التعبير وهجوم علينا جميعا".
واتخذت أيضاً دول أوروبية أصغر حجماً مواقف مُتشددة نسبياً من السعودية، فسحبت التشيك أحد دبلوماسييها من الرياض بعدما استدعت السفير السعودي لديها، واستدعت الخارجية الدنماركية السفير السعودي لديها، وألغت هولندا كل أنشطتها الحكومية المشتركة مع السعودية، وتسعى النمسا التي تتولى حالياً رئاسة الاتحاد الأوروبي لوقف كافة صادرات الأسلحة من الاتحاد الأوروبي للسعودية.
وأمّا في مجال الصحافة الأوروبية وخاصّةً البريطانية فقد اتخذت من مقتل خاشقجي قضيتها الأولى، وأصبحت الشغل الشاغل لها في الفترة الأخيرة، وركّزت هجومها على شخص محمد بن سلمان تحديداً، وحمّلته المسؤولية الكاملة، وطالبت بإزاحته عن ولاية العهد.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فالنموذج التالي من جريدة التايمز البريطانية هو مُجرد نموذج صحفي واحد من فيض صحفي هائل عجّت به الصحافة البريطانية والأوروبية يدل على هذا المعنى، فقد عنونت صحيفة التايمز اللندنية افتتاحيتها بـ"الأمير المزعج" وقالت: "إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أضحى مركز الدراما التي تشكل خطورة بأن تتصاعد لتصبح أزمة جيوسياسية"، وأضافت: "إن تسريبات وسائل الإعلام التركية لا تترك أي شك بأن محمد بن سلمان أمر بقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي"، وختمت بالقول: "إن المخرج من هذه الأزمة يتمثل بتنحي ولي العهد السعودي من منصبه"،وتحت عنوان "هل ينجو ولي العهد السعودي؟" كتب ريتشارد سبينسر في التايمز يقول: "إن الأضواء تتسلط على دولة واحدة ورجل واحد في حادث خاشقجي، فالدولة هي السعودية حليفة الولايات المتحدة وبريطانيا، والرجل هو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان".
وهكذا يحتدم الصراع بين أمريكا التي تُحاول التستر على الجريمة التي تحوم فيها كل الشبهات على رجلها الأوّل في السعودية، بل وفي الشرق الأوسط كله، محمد بن سلمان، وبين بريطانيا وأوروبا التي تسعى بكل قوة لإضعاف النفوذ الأمريكي في السعودية من خلال الإطاحة بابن سلمان أو إضعاف نفوذه.
وتُحاول أمريكا جاهدةً صدّ الحملة الإعلامية الأوروبية الشعواء ضد ابن سلمان، من خلال الدفاع عنه بكل الطرق والأساليب المُتاحة، فتارةً تجعل صحفها تتماشى مع الموجة الإعلامية الأوروبية، وتارةً تتهم أشخاصاً (مارقين) دون تحديد بضلوعهم في الجريمة، وطوراً تدّعي بأنّ الجريمة تُعتبر أكبر جريمة في التاريخ يتم التستر عليها، ولكنّها لا تُوضّح من يقف وراءها، وتارةً تقول بأنّها ستعمل على كشف مُرتكبيها ومُعاقبتهم، ولكنّها في كل الأحوال لا تتهم ابن سلمان، ولا تُريد إدخاله في دائرة الاتهام بأي شكلٍ من الأشكال.
فالمسألة إذاً ليست موضوع شخص ابن سلمان، وإنْ كان محل الصراع، ولا المسألة تتعلّق بالاعتداء على حرية الصحافة والصحفيين كما يشيعون، بل المسألة في حقيقتها تتمثّل في صراع وتطاحن على النفوذ في أهم وأخطر منطقة في العالم مُغلف بجريمة اغتيال.
رأيك في الموضوع