(الجزء الأول)
تشهد البرازيل في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة الفيدرالية والولايات، والمجلس التشريعي الفيدرالي والولايات، ومجلس الشيوخ، وفي آخر الشهر ذاته تكون الجولة الثانية الحاسمة للحالات التي لم تحسم بأغلبية الخمسين بالمئة في الجولة الأولى في الرئاسات.
وتأتي هذه الانتخابات في أجواء ضبابية في المشهد السياسي البرازيلي، وتحقيقات وملاحقات قضائية في أوساط القيادات الحزبية، وظروف معيشية متهاوية وأوضاع اقتصادية في تردٍّ دائم، وبعد مؤامرة انقلابية على الرئيسة المخلوعة ديلما روسيف واعتقال للرئيس السابق لويس إنيسايو لولا دا سيلفا قبيل الانتخابات بأشهر لمنعه من العودة للرئاسة في حال ترشحه.
خلع ديلما واعتقال لولا تمّا تحت مظلة القانون والقضاء ولكن بدون أدلة معتبرة ومثبتة عليهما، وبحشد إعلامي منحاز عليهما أيضا وبشكل فاضح.
رافق ذلك كله ظهور وصعود مريب لمرشح مغمور ذي خلفية عسكرية - يميني متطرف - ينافس على مقعد الرئاسة، ويتصدر المشهد الإعلامي بحمله خطاب عداء للنظام السياسي ومناصرته وتمجيده لكيان يهود، فيعد بنقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس، ويصرح بإعجابه بترامب وعشقه وولائه لأمريكا، ويعلن عن نيته السير قدما في خصخصة شركات القطاع العام وعلى رأسها عملاق البترول (شركة بتروبراس البرازيلية).
ولتوضيح الحالة وتجلية للصورة السياسية البرازيلية، نتوقف عند بعض الحقائق والأحداث والمعطيات:
أولا: سياسيا تعد أمريكا الجنوبية الحديقة الخلفية لأمريكا، فهي قبل خروج أمريكا للعالم ومنذ اعتمادها مبدأ مونرو وهي تعد أمريكا الجنوبية ودول الكاريبي محميتها المرتبطة بأمنها القومي مباشرة، ولا تسمح بأدنى مساس أو أي اقتراب إليها من خارج نصف الكرة الغربي.
فمن الناحية التاريخية كانت أمريكا اللاتينية مجال النفوذ التقليدي لأمريكا، وأصبح ذلك عقيدة ثابتة عند كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بدءًا بالرئيس مونرو الذي أرسى "عقيدة مونرو" 1823م - وجوهرها أن على الدول الأوروبية الابتعاد عن التدخل في شؤون أمريكا اللاتينية وتركها للولايات المتحدة - حتى الرئيس الحالي الذي سرب عنه اجتماعه بمعارضين للرئيس الفنزويلي مادورو للبحث في عملية تصفيته اغتيالا.
فالتدخلات الأمريكية في شؤون هذه القارة تؤكد الاهتمام الأمريكي بها، فقد قوضت واشنطن أو قلبت أكثر من 40 حكومة في القرن الماضي.
ثانيا: البرازيل تلك البلاد الشاسعة الزاخرة بالثروات والخيرات والتي هي أقرب لأن تكون قارة من أن تكون دولة، هي الدولة اللاتينية الكبرى في أمريكا الجنوبية والوحيدة بين أشقائها اللاتينيين التي تتحدث باللغة البرتغالية.
شعبها طيب وبسيط ومضياف ولديه تعاطف بريء مع أحوال المسلمين وشعوبهم وإكبار وإجلال لوقوف المسلمين في وجه الاستعمار الغربي عامة والعنجهية الأمريكية خاصة.
والبرازيل رائدة في قطاعات عدة ، وبلمحة سريعة لعيّنةٍ منها نرى:
- قطاع اللحوم والدواجن: الصادرات البرازيلية الضخمة تكاد تكون لكل دول العالم!
- قطاع الطاقة: الدولة الرائدة عبر شركتها (بتروبراس).
- قطاع التصنيع: شركة (إمبراير) تنافس على المرتبة الثالثة عالميا في تصنيع الطيران التجاري والحربي أيضا.
- قطاع البناء: شركة (أودبيراشت) للمقاولات والإعمار تنافس الشركات الأمريكية في أخذ العطاءات والمنشآت حتى في أمريكا.
- القطاع الزراعي: بحكم تنوع مناخات البرازيل فهي بلاد ثرية في هذا القطاع وعلى مدار العام محاصيلها الزراعية لا تنضب.
فالبرازيل بإمكانياتها وثرواتها ومساحتها وكثافتها السكانية تعد البوابة الرئيسية لأمريكا اللاتينية ورأس حربتها.
ثالثا: في البرازيل ما يربو على 35 حزباً سياسياً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولكن في الحقيقة؛ إن أغلب هذه الأحزاب لا وزن حقيقياً لها في الشارع من حيث الأتباع، ولا تمتلك مشاريع ولا تصورات سياسية، وإنما هي تجمعات تتبع سياسيين أوجدوا لأنفسهم مكانة في الوسط السياسي والحياة العامة، وأوجدوا هذه الأحزاب من حولهم أو التحقوا بها بغية تحقيق أكبر قدر من المنفعة المادية في أسواق التحالفات السياسية المؤدية لتشكيل الحكومات وإدارات الحكم على مستوى الدولة.
إن من بين هذه الأحزاب الكثيرة في الحياة السياسية البرازيلية يمكن أن يتم تصنيف ثلاثة أحزاب رئيسية مؤثرة فعلا في المشهد السياسي، وهذه الأحزاب الثلاثة تتمثل بـ:
- الحزب الاشتراكي الديمقراطي البرازيلي : المعروف بلقب الـ(توكانوس)، وهم فعليا الدولة العميقة، وبيدهم مؤسسات الدولة، والإعلام موظف لخدمة توجهاتهم التي تنظر بعين التمجيد للتبعية الأمريكية ومشاريع تسليم ثروات البلاد لأمريكا.
- حزب العمال : وهو الحزب الذي أنشأه ويقوده الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في مسيرته الكفاحية عبر حركة النقابات العمالية. وهذا الحزب هو الثقل السياسي الوحيد المنظم على الأرض ويمثل الفقراء في البلاد ويستغل الحديث باسمهم لتصدره المشهد السياسي، ويتّسم بشيء من الاعتزاز بالهوية الوطنية والامتداد القومي اللاتيني البوليفاري.
- حزب الحركة الديمقراطية البرازيلية المعروف سابقا بـ PMDB): وهذا الأخير من أعرق الأحزاب ولكنه ضعيف من حيث الطموح السياسي شعبيا، ويوظف نفسه في خدمة الحزب الحاكم غالبا وتقاسم الكعكة مع كل من ترجح له الكفة السياسية.
رابعا: في مطلع القرن الحالي وتفاقم المشاكل الاقتصادية والمعيشية في معظم دول أمريكا اللاتينية، وانتهاز التيارات اليسارية العمالية والقومية للنقمة الشعبية على أمريكا والحكومات التي سارت في سياسات الخصخصة والارتماء الكلي في أحضان أمريكا، في هذه الظروف هبّت نسائم العداء لأمريكا، وكسحت التيارات النقابية العمالية الوطنية الساحة السياسة عبر صناديق الاقتراع وتربعت على سدة الحكم بسند شعبي، يقابله سخط غير مخفي من أوساط الدولة العميقة وأجهزة إعلامها ومثقفيها على الحكام الجدد لهذه البلاد.
ففي البرازيل وبعد محاولات كثيرة في الانتخابات الرئاسية، استطاع حزب العمال في انتخابات عام 2002م الوصول لسدة الحكم بقيادة (لولا)، الأمر الذي راهن عليه معظم الوسط السياسي أن يكون (لولا) قادرا على قيادة البرازيل، ولكن الرجل برغم انعدام الخبرة لديه في الحكم إلا أنه حقق إنجازات في تقدم البلاد ورفع المستوى المعيشي للشعب، ومحاربة الجوع والفقر كانت ملحوظة ومميزة.
فاز حزب العمال منذ 2002 حتى الـ2014 بأربع فترات رئاسية، اثنتان متتاليتان للرئيس المسجون لولا دا سيلفا ومن ثم اثنتان متتاليتان للرئيسة المخلوعة ديلما روسيف، أتمت الفترة الأولى وتم خلعها في منتصف الفترة الثانية بعملية التفاف على القانون وتحالف التوكانوس مع مجموعة كبيرة من الأحزاب على رأسها حزب الـ(MDB)، الذي كان رئيسه يشغل منصب نائب الرئيس وكان ثمن تآمره على خلع الرئيسة هو تنصيب نائبها الفاسد ميشيل تامر رئيسا للجمهورية.
أدار حزب العمال الدولة داخليا بعقلية أصحاب الجمعيات الخيرية ممن يشغلون أنفسهم بإطعام الجائع وتطبيب المريض فحسب، دون معالجة أو التفات لمسببات الجوع والمرض؛ فلم يكونوا بعقلية السياسي الراعي للشؤون المتنبه للماكرين بالرعية، والباتر لأيديهم والقاضي على وجودهم في الإعلام والقضاء والأمن والدستور والتشريعات، فاستمر حزب العمال في الحكم لفترتين رئاسيتن للولا، وفترة رئاسية كاملة لديلما، وفي منتصف الفترة الرئاسية الثانية استطاعت الدولة العميقة ممثلة برجالات حزب (PSDB)التوكانوس وبعد إحكام الخناق على حزب العمال بقضايا الفساد التي كانت عمليا فخاخاً من قبل الدولة العميقة لحزب العمال (PT)الذي سال لعاب زعمائه بمردودات الفساد السياسي فانغمسوا فيه دون حرفية ودون أرضية آمنة في أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية كالتي يمتلكها التوكانوس، فكانوا فريسة سهلة للتوكانوس والدولة العميقة لملاحقتهم بفتح ملفات الفساد قضائيا وتسليط الإعلام على فسادهم. (يتبع)
بقلم: الأستاذ ياسر أبو خليل – البرازيل
رأيك في الموضوع