قال وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس يوم 27/8/2018 خلال المؤتمر السنوي المنعقد لرؤساء البعثات الدبلوماسية الألمانية في الخارج: "إن سياسة عقوبات واشنطن تدفعنا لاتخاذ تدابير أوروبية، إذ إن فرض الولايات المتحدة عقوبات غير محددة ضد روسيا والصين وتركيا وغيرها من شركائنا التجاريين يؤثر بشكل كبير على أوروبا وألمانيا". وأشار إلى أن: "انتخاب ترامب رئيسا لأمريكا أظهر في أوروبا أنهم لا يعرفون أمريكا بقدر ما كانوا يعتقدون". (سبوتنيك 27/8/2018)
إن ألمانيا بدأت تتجرأ وتبدي مواقف مستقلة عن أمريكا، وقد أظهرت تحديها لأمريكا في بعض المواقف في السنوات الأخيرة، منها هذا الموقف من عقوبات أمريكا على روسيا والصين وتركيا وهي الدول التي فيها التعامل التجاري يميل لصالح ألمانيا، فذلك يهدد مصالحها فتقف في وجه أمريكا داعية لاتخاذ تدابير على نطاق أوروبا، فتريد أن تجعل مصالحها هي مصالح أوروبا لتستخدم أوروبا في سياستها التجارية والخارجية لتتقوى بها كما تفعل فرنسا وكما فعلت بريطانيا.
ومن مواقف التحدي؛ موضوع أوكرانيا، حيث رفضت ألمانيا فكرة تسليح أوكرانيا التي طرحتها أمريكا على عهد أوباما لتوريط أوروبا في حرب مع روسيا، فوقعت مع روسيا بجانب فرنسا اتفاقية مينسك عام 2015 لحل مشكلة أوكرانيا سلميا. وكذلك رفضت المطالب الأمريكية بتخفيف القيود المالية على اليونان في أزمتها المالية، وفرضت على اليونان ما تريد عام 2015.
وعندما وصل ترامب إلى الحكم فكأنه قد تمت توصيته من قبل صانعي السياسة الأمريكية أن يتشدد مع ألمانيا خاصة ومع أوروبا عامة، فصب جام غضبه على ألمانيا في مؤتمرات الناتو والسبع، وآخرها في مؤتمر الناتو في بروكسل يومي 11 و12/7/2018 إذ اتهم ألمانيا بأنها خاضعة لروسيا، فردت عليه المستشارة الألمانية ميركل بقوة قائلة: "إن لألمانيا سياساتها الخاصة، إنها تتخذ قراراتها بشكل مستقل"، ورد وزير خارجية ألمانيا ماس بتحدٍّ قائلا: "إننا لسنا أسرى لروسيا أو لأمريكا" (بي بي سي 12/7/2018). وهكذا بدأت ألمانيا تظهر شجاعة سياسية لتقف في وجه أمريكا.
وقد تجرأت ألمانيا في مواصلة التحدي، فكما نقلت وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) تصريحات وزير خارجيتها ماس يوم 25/8/2018 حول علاقات بلاده مع أمريكا بمناسبة انطلاق عام ألمانيا في أمريكا فقال: "لقد حان منذ زمن بعيد الوقت لإعادة تقييم الشراكة الأطلسية بتبصر وبصورة انتقادية وحتى بصورة ذاتية". وهذه مواجهة مع أمريكا، يطلب فيها إعادة صياغة علاقات أوروبا بأمريكا، حيث يرى أن هذه الشراكة باتت معدومة، إذ بدأ العراك يشتد بينهما.
ولهذا كتب ماس يوم 21/8/2018 مقالا في صحيفة "هاندلس بلات" الألمانية قال فيها: "إن أمريكا وأوروبا تبتعدان عن بعضهما البعض منذ سنوات عديدة". وأشار إلى "اختفاء المصالح والقيم المشتركة". فسنوات الهيمنة الأمريكية على أوروبا وخاصة على ألمانيا بدأت تنحسر بسرعة، وبدأ الصراع يحتد والتحدي يزداد، حتى اختفت المصالح المشتركة والقيم المشتركة، فأصبحتا على طرفي نقيض، فهما قوتان استعماريتان، كل يسعى لتحقيق مصالحه، فاتفاقهما غير طبيعي، بل الطبيعي هو الصراع بين المستعمرين كما كان عبر التاريخ، فالاتفاق مؤقت بتقاطع المصالح، ومن ثم يبدأ الصراع عندما تنقطع الرابطة المصلحية، وما حدوث حروب كبيرة بينهما الحرب العالمية والأولى والثانية إلا دليل على ذلك. ولولا الخوف من نتائج استعمال الأسلحة النووية لاندلعت الحرب العالمية الثالثة بينهما منذ زمن بعيد. والمبدأ الرأسمالي الذي تعتنقه هذه الدول لا يستطيع أن يصهرهم في بوتقة واحدة، بل فشل فشلا ذريعا. فأصبح المبدأ يطبق في الدولة الواحدة وليس له علاقة بالدولة الأخرى التي تطبق المبدأ نفسه، بل ربما يكونون أعداء أشداء، لأن أصل المبدأ النفعية فلا يوجد فيه ما يوحد البشر، بل فيه ما يفرق البشر ويسبب النزاعات الدائمة والحروب الكبرى بين أصحاب المبدأ نفسه أولا وبينهم وبين الأمم الأخرى التي تعتنق مبادئ تخالفهم. وربما يتحالفون مع أصحاب المبادئ الأخرى ضد إخوانهم في المبدأ كما حصل في الحرب العالمية الثانية، إذ تحالفت أمريكا وبريطانيا الدولتان الرأسماليتان مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي ضد ألمانيا وإيطاليا الدولتين الرأسماليتين.
ولهذا دعا وزير خارجية ألمانيا في مقاله المشار إليه إلى "إنشاء أوروبا القوية المستقلة" واعتبر ذلك "هدفا رئيسا للسياسة الخارجية الألمانية" وقال: "إن أوروبا تحتاج إلى إقامة نظام دفع مستقل عن أمريكا إذا أرادت إنقاذ الصفقة النووية"، وقال "إن عملية تطبيع العلاقات مع الشرق بدأت قبل وصول الرئيس الأمريكي الحالي ترامب"، أي أن أوروبا تتبع سياسة مستقلة في شرقها؛ روسيا والصين واليابان والعالم الإسلامي. ولا تقبل أن تكون محكومة لسياستها مع غربها أي مع أمريكا، ولذلك اقترح "جعل فكرة التعاون المتوازن أساسا للعلاقات الجديدة مع واشنطن". أي الند بالند وليس أن تكون أمريكا مهيمنة على أوروبا وأن تكون أوروبا محكومة في سياستها الخارجية لأمريكا تسير وراءها سلبا وإيجابا، فتعادي من تعادي وتسالم من تسالمه أمريكا.
وعبر وزير الخارجية الألماني في مقاله عن "معارضته للاستراتيجية التي تنص على أنه يجب على أوروبا ببساطة توقع تغير السلطة في أمريكا". فاعتبر أن تغير الأشخاص الحاكمين في أمريكا لا يغير من سياستها، سواء أكان رجل في الحكم مثل أوباما الذي أظهر أسلوبا ملمسه ناعم ولكنه صلب في ذاته تجاه أوروبا، أم كان شخصاً مثل ترامب يظهر أسلوبا فظا متشددا مع أوروبا، فكلاهما ينفذان سياسة دولية لأمريكا وهي تمزيق أوروبا وإبقاؤها حتى الهيمنة الأمريكية ولكن بأسلوبين مختلفين.
وازداد توتر العلاقات بين طرفي الأطلسي على خلفية انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران، وقد اتخذ الاتحاد الأوروبي يوم 7/8/2018 قانونا يحظر سريان مفعول العقوبات الأمريكية على إيران في أراضي الاتحاد. وفرض أمريكا رسوما جمركية على الألومنيوم والصلب من الاتحاد الأوروبي، فتصدت لها أوروبا بفرض رسوم جمركية على صادرات أمريكا لأوروبا بمقدار 25%. وكذلك خروجها من اتفاقية المناخ الموقعة في باريس عام 2015، فتمسكت به أوروبا. وتهديدها بالخروج من الناتو، فدعت أوروبا لتأسيس قوة مستقلة لها عن الناتو، وهجومها على دول أوروبية لا تلتزم باتفاقية زيادة النفقات الدفاعية إلى 2% فتلكأت أكثر دولها في الالتزام بذلك.
وإن كان كل ذلك ينذر بصعود ألمانيا ومحاولاتها لأن تكون دولة كبرى عالميا، ولكنه يبشر بحصول الصراع بين القوى الاستعمارية الكبرى الذي يجب على المسلمين أن يستفيدوا منه وهم يعملون للتحرر من ربقة القوى الاستعمارية، فلا يريدون أن يتخلصوا من واحدة ليقعوا في شرك الثانية، ويكونوا شراكا في نعلها، وكأن مصيرهم محكوم عليه بالتبعية، وهذا من صفات الشعوب المنحطة التي تتخلص من هيمنة دولة كبرى لتقع تحت هيمنة دول كبرى أخرى كدول البلقان، ولا تعرف لها طريقا للتحرير والنهضة وكيفية التخلص من براثن الاستعمار وتتفادى الوقوع في شركه. فذلك ليس من صفات أمة عريقة كأمة الإسلام التي حكمت العالم 13 قرنا، منها ستة قرون كدولة كبرى أولى بلا منافس. والدليل على أنها أمة خير تأبى التبعية وتسعى للتحرير والنهضة وسيادة العالم ظهور نشاط قوي على أبنائها نحو ذلك، واندلاع ثورات وانتفاضات من أجل ذلك، وظهور أحزاب مبدئية جادة ومجدة منها وفيها كحزب التحرير، وقد احترف السياسة وأبدع فيها، ولكن ليس كحرفة ومهنة مجردة للعمل في هذا المجال، وإنما أصالة وعراقة، لطبيعة مبدئه الإسلامي السياسية وطبيعة عمله السياسي الذي يتطلب إنزال الأفكار الإسلامية على الوقائع ومعالجة القضايا والمشاكل بالأحكام الشرعية، فكانت كلها أفكارا وأحكاما سياسية، لأن بها تُرعى شؤون الناس وتسيّر أعمال الحكم وتقاد الشعوب. فهذا الحزب المبدئي السياسي يصل ليله بنهاره بجد وجدارة وبشجاعة أشد من جد وشجاعة الألمان، وعن وعي وإدراك تامين، حتى يعيد من جديد بإذن الله بناء صرح أعظم دولة تحكم العالم بالعدل والحق، وتنشر الهدى والخير، وتحقق الأمن والسلام الحقيقيين بين الناس كافة...
رأيك في الموضوع