لم يشهد التاريخ على مدى عصوره المديدة تآمراً فظيعاً، تحالف فيه البعيد والقريب، والعدو والصديق، كما تشهده الساحة الشامية، من تآمر على شعب انتفض في وجه نظام مجرم يشهد بإجرامه القاصي والداني، ولم يكن من سبب واضح وجلي لهذا التآمر إلا هتافات هذا الشعب "ربي الله" التي خرجت من بيوت الله في الأرض التي باركها الله سبحانه وتعالى، والتي تبشر بالعودة إلى منهج الله العظيم.
وقد اتخذ هذا التآمر أشكالاً وأساليب متعددة في المكر والخداع، وبما أن هذه الثورة لم تتخذ لها قيادة سياسية مخلصة واعية حتى الآن، ولم تسمع لنصائح الواعين من هذه الأمة، نجد الكثير من مكر وخداع الدول الكافرة المستعمرة، قد انطلى على الكثير من أبناء الأمة وخصوصاً قادة الفصائل حتى لم يشعر الكثير منهم إلا وهم مرتمون في أحضان أعداء أمتهم، ينفذون أوامرهم ومخططاتهم التي تكيد بها، ويجعلون من تضحياتها الجبارة سلعة رخيصة لتحقيق أهداف وهمية زائلة وعدوهم بها ومنَّوهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
فقد تم تسليم الكثير من المناطق التي عجز عن إخضاعها النظام والقوى التي تسانده، فكان تسليم حمص الوليد ومناطق في الساحل ومعبر كسب الاستراتيجي ثم تسليم حلب ومناطق الفرات ومدنه ومناطق شاسعة في البادية ومناطق في ريفي حماة وإدلب، ثم كانت الفاجعة في تسليم مناطق الغوطة بشطريها الغربي أولاً ثم الشرقي. والملاحظ من هذه الأحداث كلها أن كل عملية تسليم لمنطقة ما لم تكن أبداً بقوة النظام وحلفائه، فهم أعجز من أن يأخذوا أي منطقة يتم الدفاع عنها بصدق! وتاريخ الثورة شاهد على ذلك، فبينما كان يتسلم حلب ومناطق الفرات والبادية، لكنه يعجز عن التقدم ولو لمتر واحد في عقر داره في جوبر التي لا تبعد إلا بضعة أميال عن القصر الرئاسي، ولكن عندما أتى الأمر من الحكام الخونة أولياء الفصائل سُلِّمت جوبر وحرستا وما حولها بغمضة عين أو انتباهتها!
وكذلك الحال في الجنوب فبينما حشد النظام وأعوانه ثلاث فرق ضخمة وهي (الرابعة والخامسة والخامسة عشرة) إضافة للمليشيات الطائفية والدعم الجوي الروسي لمعركة المنشية في درعا لم يستطع أن يتقدم ولو لمتر واحد بل على العكس تماماً، تابع الثوار زحفهم وحرروا القسم الأعظم من المنشية، لكن من ناحية أخرى نرى النظام تسلم مناطق أخرى مثل خربة غزالة الاستراتيجية والشيخ مسكين ومناطق في مثلث الموت بكل سهولة وللسبب نفسه وبمعارك وهمية!
فلم تكن هذه المعارك التي تسلم فيها النظام هذه المناطق المتعددة تكشف عن استعادته لقواه وحيويته التي كان عليها قبل قيام الثورة، بل على النقيض، فقد ظهر عجزه وتهالكه عندما كان يواجه مجموعة من المقاتلين المخلصين "المتفلتين" من أوامر القادة المرتهنين وقد حدث ذلك في جميع المناطق بل حدث ذلك في الغوطة نفسها عندما تجمعت مجموعة من المقاتلين المخلصين وتعاهدوا على القتال حتى الشهادة، فقد تمكنوا من دحر جيش النظام من بلدة مسرابا مخلفاً عشرات القتلى.
وقد لوحظ في تسليم الغوطة ظاهرة جديدة قديمة وهي ما بات يطلق عليها الثوار تندراً بظاهرة "الضفدعة"، وهي تعبير عن دور زمرة من المرجفين من مشايخ السوء أحفاد ابن العلقمي وكان أبرزهم بسام ضفدع، الذي لعب دوراً خطيراً ومكملاً لدور الفصائل في إحباط الناس واستسلامهم للجلاد، والحقيقة التي يجب على بقية المناطق إدراكها بأن مثل هذه الضفادع لا تنمو ولا تتكاثر إلا في المستنقعات الراكدة الآسنة التي ينشغل فيها المقاتلون عن الجهاد، مجمدين الجبهات كما يحدث في الجنوب والشمال متصارعين في اقتتال حرام فيما بينهم ناسين أو متناسين تربص أعدائهم بهم!
لهذا ينبغي على الأمة ممثلة بوجهائها والمؤثرين فيها أن تسارع لاتخاذ قيادة سياسية واعية تحمل مشروع الخلاص للأمة، مشروع الإسلام العظيم، ولا توجد في الأمة جماعة تحمل هذا المشروع الذي فيه الخلاص في الدنيا والنجاة في الآخرة، إلا حزب التحرير.
فالأمة قد سارت طوال الفترة الماضية خلف سراب بقيعة كانت تحسبه ماءً فيه إرواء ظمئها، ولكنها لم تجده شيئاً، فلم تستمع للناصحين المخلصين من أبنائها، فقد حذروها من الكوارث التي وقعت فيها ولا تزال، حذروها من الهدن والمفاوضات الآثمة التي زينها لها شياطين الإنس وقرنوها بصلح الحديبية الفتح المبين، وكذلك حذروها من الارتهان لدول الكفر وأعوانهم من حكام المسلمين والمال السياسي القذر، لكنها انساقت وراء وسوسات الشياطين الذين اعتبروا ذلك تقاطعاً للمصالح وفيه مصلحة الثورة! فكانت نتيجة ذلك، أن سُلمت البلاد وبِيعت الدماء والأعراض بأمر من هذه الدول والله سبحانه يقول: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾.
وكذلك حذروهم من المفاوضات ومن دور الأمم المتحدة المجرمة، وأنها أداة بيد الدول العظمى للسيطرة على بلاد المسلمين وذكروهم بمفاوضات يهود وسيربرينتشيا وما حدث لغروزني وغيرها من حواضر المسلمين لكنهم لم يعتبروا وذهبوا إلى جنيف وفينَّا وأستانة وموسكو والرياض وكانت النتيجة المفجعة لهذه الأمة، فظهرت الأمم المتحدة عدواً سافراً من الدور السياسي القاتل، إلى التغاضي عن الجرائم التي لم يُشهد لها مثيل في التاريخ، إلى التجسس على مشافي المسلمين وإرسال إحداثياتها لروسيا كي تقصفها كما حدث في الغوطة حسب ما نشرت قناة أورينت عن صحيفة بريطانية!
فآن الأوان لكي تصغي أمة الخير للواعين المخلصين من أبنائها، فهم لا يطلبون جزاءً منها ولا شكوراً. فالذين سارت وراءهم حتى الآن لم يزيدوها إلا رَهقاً، وسببوا لها الويلات إن كان على الصعيد السياسي الذي أقحموا أنفسهم فيه بغير علم ولا خبرة حتى باتوا يعتبرون نظام روسيا المجرمة ضامناً لدماء وأعراض ومصير المسلمين! أو باقتتالهم فيما بينهم وسفك الدم الحرام! ولكنه التمايز الذي يعتبر سنة من سنن الله سبحانه، فكما أخبرنا الرسول e سيتمايز الناس إلى فسطاطين وسيكون فسطاط الإيمان في الغوطة إن شاء الله تعالى.
وفي الختام لا بد من التنويه لحقيقة قد تغيب عن البعض، وهي أن الثورة المباركة التي انطلقت في الأمة لم تكن يوماً ثورة مدينة أو فصيل، بل هي ثورة ولدت في الأمة ولن تموت بإذنه تعالى حتى تؤتي أكلها وتحقق هدفها الذي انطلقت من أجله، فهي قامت لرفع الظلم الذي وقع على هذه الأمة، ثم ما لبث أن تبلور هدفها أكثر من خلال طرح المشروع الإسلامي الذي حاول الكثير من المرجفين وضعاف النفوس إخفاءه وإبعاده عن شعارات الأمة، إرضاءً لأعدائها، وأن هذه الثورة بإذن الله مستمرة، فقد أرعبت جرذان البيت الأسود والأحمر، فضلاً عن خفافيش بلاد المسلمين وهي بدون قيادة، فكيف إذا ما اتخذت من المخلصين الواعين قيادة سياسية لها، سارت معها إلى حيث يرضى الله ورسوله، إلى إقامة مشروع الإسلام العظيم خلافة على منهاج النبوة، وعد الله سبحانه وبشرى رسوله e؟ ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً﴾
بقلم: الدكتور محمد الحوراني
رأيك في الموضوع