إنه لمن دواعي الأسى والحزن، أن تكون السفارات الغربية، والمبعوثون الدوليون، هم الحكومات الفعلية القائمة في البلاد الإسلامية، وهم مجالسها التشريعية، وما هذه البرلمانات، إلا مراكز لتسويق مخصصات الدستوريين، وإضفاء الصبغة الشرعية للجرائم، والمؤامرات، ليس غير. فقد طلبت السفارة الأمريكية في 17/12/2017م، من الحكومة السودانية (تعديل أو إلغاء المادة 152 من القانون الجنائي المتعلقة بارتداء الزي الفاضح، لتتواءم مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية). وبحسب بيان السفارة فإن ذلك يعتبر انتهاكاً لسلامة الرعايا، وكرامتهم، والحريات المدنية.
وتعلمون أن نائب وزير الخارجية الأمريكي، جون سوليفان، عندما جمع كبار العلماء وبعض التنفيذيين، والأساتذة، ونفراً من أئمة المساجد، في قاعة الشهيد، بجامعة القرآن الكريم بأم درمان، لقّنهم درساً، ورسم لهم مساراً يُرضي أمريكا، وخريطة طريق، لكي يصبح السودان شريكاً كاملاً لأمريكا، وذلك (بأن يسعى إلى تحقيق السلام داخل حدوده) أي تفتيت ما تبقى منه، (ومع جيرانه)، أي المحافظة على جنوب السودان "الأمريكي" من الانهيار والفشل، ففي لقاء بصحيفة الشرق الأوسط في 26/1/2017 سئل البشير عن مدى تنفيذ الحكومة لخمسة مطالب أمريكية لرفع الحصار، فقال البشير (بالفعل كانت هناك 5 محاور لرفع العقوبات، والسودان أوفى بذلك... وكل العالم والدول المجاورة تعلم أن لدينا جهودًا كبيرة جدًا ومحاولة للعمل على استقرار جنوب السودان). وطلب سوليفان (أن يتعاون السودان بشكل موثوق، مع المجتمع الدولي، لتحسين الأمن)، وهذا يعني بذل الوسع في محاربة الإسلام، وفي هذا الصدد، صرح البشير أيضاً، بأنهم قطعوا شوطاً معتبراً في محاربة (الإرهاب) بشهادة أمريكا. (وأن يلتزم السودان بالمعايير الدولية الراسخة)، وسوليفان يعني بذلك، الابتعاد الكامل، في حال سن الدستور والقوانين، عن كل شرعة، وعهد، وميثاق، ودين، لا يتواءم مع الشرعة الدولية، ومواثيق الأمم المتحدة. علاوة على ذلك، فقد ذكر سوليفان بعض الوعود المكذوبة مسبقاً، فقال: (إن دعم حقوق الإنسان، بما في ذلك الحرية الدينية، كان، وسيظل، يشكل جزءاً هاماً جداً من المشاركة الثنائية بين أمريكا والسودان)، والجدير بالذكر أن جون سوليفان قد ذكر عبارة (الحرية الدينية) في كلمته هذه حوالي (18) مرة، حسب موقع السفارة الأمريكية التي نشرت الكلمة في 17/11/2017م، حول حقوق الإنسان والحرية الدينية في السودان.
وبحسب موازين القوى الدولية، والموقف الدولي، وباعتبار أمريكا، رغم بوادر انهيارها وسقوطها، هي الدولة الأولى في العالم، بلا منازع، بحسب ذلك، فإن طلبات السفارة الأمريكية، وتوجيهات مبعوثيها، وممثليها، في ظل الأنظمة العميلة القائمة في البلاد الإسلامية، تظل بمثابة أوامر يجب تنفيذها، والعمل بموجبها، وفق المصالح التي تحددها أمريكا، وما على هذه الأنظمة إلا الانصياع التام، والدخول في بيت الطاعة الأمريكي. فإذا تساءلنا عن حدود عمل السفارات، والمبعوثين الدوليين، وهل لهم صلاحية رسم الخرائط للدول، وإصدار التوجيهات، وهل يحق لهم التدخل في الشأن الداخلي للبلاد... نجد أن السودان، بهذه المقاييس، قد أصبح وكأنه جزء من أمريكا، يتلقى حكامه التعليمات، والأوامر، تارة من نائب وزير الخارجية الأمريكي، بتغيير الحدود الشرعية، وتنفيذ المطالب، وقطع العلاقات مع كوريا الشمالية... وغيرها، وتارة ببيان من السفارة الأمريكية، يطالب بتعديل مواد في قوانين الدولة، وحيناً آخر من مراكز الدراسات الاستراتيجية في أمريكا. ولعل مركز السلام الأمريكي التابع للرئيس السابق كارتر، الذي رسم "موجز السلام الأمريكي رقم 155" الخاص بالسودان هو خير دليل، حيث وجه كارتر خريطة للحوار، انطلق على أثرها حوار الوثبة الفاشل في مخرجاته ونتائجه.
ومع التعدي الواضح للبروتوكولات المتفق عليها دولياً، عن اختصاصات السفارات، والدبلوماسيين، يبقى السؤال هو، هل أمريكا نفسها مؤهلة لأن تتحدث عن حقوق الإنسان، والإنسانية، والكرامة، ومحاربة (الإرهاب)، وهي صانعته؟! فهي أبوه وأمه، بل هي والإرهاب كالتوأم السيامي، لا، بل هي أفظع دولة في التاريخ القديم والحديث، فمنذ نشأتها، قامت بجرائم الإبادة الجماعية ضد الهنود الحمر؛ السكان الأصليين لأمريكا، ولا يزال التاريخ يحكي عن العراق وتدميره، وبث الفتن الطائفية والعرقية في شعبه لتفتيته، ولا ننسى إلى الأبد تشوهات الأطفال بسبب الفوسفور الأبيض، الذي استعملته أمريكا في العراق، وما زال سجن أبو غريب يشهد بفظائع غير أخلاقية، يستحي الإنسان من ذكرها، وهي تقف شاهدة على حضارة أمريكا التدميرية، وثقافتها الساقطة. ولا ننسى احتلال أفغانستان، ولا تزال فلسطين الجريحة، شاهدة على دعم أمريكا لكيان يهود، فقرار ترامب بتثبيت القدس عاصمة ليهود، لم تحمله الرياح بعد، و"صفقة القرن" تنطق بعدوان أمريكا على الأمة الإسلامية، ومقدساتها، وثرواتها.
إن سيطرة أمريكا، وعدوانها السافر على الأمة، رغم انحطاط قيمها وحضارتها، هو نتيجة تبني الحكام لمفاهيم الغرب الكافر، وتشريعاته، وانضوائهم تحت مظلة ما يسمى بالشرعة الدولية، ومواثيق الأمم المتحدة، التي لا يلتزم بها حتى أصحابها ومُنشئوها... فقد وصف نتنياهو الأمم المتحدة بأنها "بيت أكاذيب"، عقب التصويت ضد القدس عاصمة لكيان يهود، ورغم ذلك فقد جعلوها قبلتهم يقدسون قراراتها... هذه الحبال من الحكام، ومواقفهم، هي التي أغرت أمريكا، وجعلتها تتجرأ على البلاد والعباد، وتنجح في سياستها الخارجية، والتحكم في بقاء الدول، أو تفتيتها إلى دويلات، كما هي الحال في السودان. فأقول لسفارات أمريكا، ومبعوثيها، لقد تطاولتم على ديننا، وانتهكتم أعراضنا، في كثير من بلاد المسلمين، ومكّنتم ليهود فيما لا تملكون، في فلسطين، وفصلتم الجنوب، فانشطر السودان إلى شقين فاشلين، ثم ها أنتم تسعون لتغيير أحكام ديننا، وقد تجدون من يستجيب لكم، من أراذل القوم، وأذلائهم، ومن تسلموا زمام الأمور في بلادنا، على حين غرة من أهلها بحمايتكم، وقرروا بأن يكونوا في صفكم يعملون لمرضاتكم، وليس في صف الأمة، أقول: رغم كل ذلك، فإن السودان ليست ولاية أمريكية، يبعث ترامب بولاته إليها، ويسهر لتصحيح المسارات، وتعديل القوانين، أو إلغاء مواد لا تتلاءم مع الشرعة الدولية...
فلماذا لا تزال بلادنا تخضع لمتطلبات المستعمر؟! إن الأمة الإسلامية، خير أمة أخرجت للناس، ومنها أهل السودان، على عهد مع ربهم، بأن يحقوا الحق في الأرض، ويبطلوا الباطل، وأن يلقوا بالشرعة الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، عرض البحر، تتقاذفها الأمواج العاتية، ويشهد التاريخ، أن الكافر، مهما عظمت دولته، فلا سبيل للتطاول على أحكام الله، في ظل دولة قائمة على أساس الإسلام، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة...
بقلم: يعقوب إبراهيم (أبو إبراهيم)- الخرطوم
رأيك في الموضوع