جون فوستر دالاس، وزير خارجية أمريكا في أواسط القرن المنصرم، هو أول من استخدم مصطلح سياسة حافة الهاوية، إذ هي سياسة يُقصد بها تحقيق مكاسب معينة، عن طريق خلق أزمة ما وتصعيدها، مع دولة أخرى، ودفعها إلى حافة الهاوية، مع إيهام الخصم بأنك تأبى التنازل، أو الخضوع، ولو أدى بك إلى اجتياز هذه الحافة الخطرة. وقد درجت أمريكا على استعمال هذه السياسة تجاه الدول المستهدفة منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا.
وقد رأينا في الآونة الأخيرة، وبعد أن أطلقت كوريا الشمالية صاروخها الباليستي القادر على حمل رؤوس نووية، والذي يصل مداه إلى بعض الشواطئ والمدن الأمريكية، لقد رأينا كيف سخّنت أمريكا الأجواء، عبر التصريحات النارية، التي صدرت من المسؤولين الأمريكيين، وكيف حرّكت بوارجها الحربية، حتى ظن الكثيرون أن الحرب بين أمريكا وكوريا الشمالية لا محالة واقعة، وحينما لم يستجب زعيم كوريا الشمالية لهذه التهديدات، والاستفزازات، ما كان من أمريكا إلا أن خففت من لهجتها التصاعدية ورجعت إلى سياسة الاحتواء، بفرض مزيد من القيود على كوريا الشمالية.
وكذلك نرى أن أمريكا قد دفعت بولي عهد السعودية ابن سلمان إلى حافة الهاوية، وذلك بإشعال النيران من حوله في اليمن وقطر وإيران، وما لبنان عنا ببعيد، كل ذلك مع تفكيك الجبهة الداخلية، وضرب سند الحكم الملكي، الذي امتد لعشرات السنين، وحينما يشعر ابن سلمان بأنه محاصر خارجياً، ومستهدف داخلياً، حينها فقط سيدرك أنه في حافة الهاوية، وهو الوقت الأمثل الذي ستقدم فيه أمريكا طوق النجاة له، مصحوباً بروشتة طعمها علقم، وليس لابن سلمان حينئذ من خيار غير أن يبتلع الطعم.
أما في حالة السودان، فقد دفعت أمريكا بقضية الجنوب، حتى أوصلتها إلى مرحلة الانفصال، فكانت النتيجة أن فقد السودان 75% من موارد النقد الأجنبي، وذلك بفقدان البترول الذي آل إلى الدويلة الوليدة في جنوب السودان، وقد تهيأت بقية الأقاليم للتمرد، فنشبت الحروب الأهلية في دارفور، قبل أن يجف مداد اتفاقية نيفاشا المشئومة، بل وقبلها، وتبع دارفور كل من جنوب كردفان، والنيل الأزرق، حيث اشتعلتا في آن واحد بما يعرف بـ (الكتمة). ومنذ ذلك الحين، صار السودان يخوض في دياجير الأزمة تلو الأزمة، تتناسل المشاكل الأمنية والاقتصادية، تأخذ بعضها برقاب بعض، فوصلت الأزمة الاقتصادية إلى درجة يتغير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، ثلاث مرات في اليوم الواحد، وهو مؤشر خطير يؤذن بالانهيار.
وفي هذه الأثناء دفعت أمريكا بنائب وزير خارجيتها إلى السودان وحكومته في حافة الهاوية، تبحث عن منقذ بأي ثمن، جاء نائب الوزير مستعلياً، رافضاً لقاء رئيس الدولة، متعللاً بطلب المحكمة الجنائية الدولية للبشير، وهي إحدى السياط التي تستخدمها أمريكا لدفع السودان إلى حافة الهاوية، بل ذهب نائب وزير خارجية أمريكا يصدر الأوامر بقطع العلاقات مع كوريا الشمالية، ويجتمع مع هيئة العلماء في بيت من بيوت الله، يملي عليهم مخالفة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ولم يرد عليه أحد من بينهم!! وفي هذا المقام يستحضرني موقف الشيخ علي سعيد علي أبو الحسن عليه رحمة الله حينما كان معتقلاً، حيث أرسلت الحكومة مسؤول حقوق الإنسان، وكان من أهل الجنوب إلى السجن، ليلتقي بالمعتقلين السياسيين ويستمع إلى شكواهم، فقال له أبو الحسن: "إن ما نعانيه نحن هو أمر بسيط مقارنة بما تعانيه أنت، فأنت لست على ملة الإسلام، ومصيرك إلى جهنم، فعليك أن تحل مشكلتك أولاً بالدخول في الإسلام، ثم بعدها يمكن أن تنظر في قضايانا البسيطة هذه".
نعم، إن نائب وزير الخارجية الأمريكي، جاء إلى السودان والحكومة على حافة الهاوية، وللعلم هذا أكبر مسؤول أمريكي يزور السودان في العقد الأخير، بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول في العام 2004م. إن الإدارة الأمريكية قد كانت تكتفي بإرسال مبعوثين إلى السودان، حتى تحقق لها انفصال الجنوب، وليس من المقنع عقلاً أن يزور نائب وزير الخارجية الأمريكي السودان، ويطلب منه قطع العلاقات مع كوريا الشمالية، التي ليس بيننا وبينها مصالح ذات وزن، وأن يعيد الطلب القديم المتجدد، وهو الالتزام بالمسارات الخمسة التي ربطت بالحظر ورفع الحظر، ووضع السودان في قائمة الدول الراعية (للإرهاب)، ليس كل ذلك هو وراء هذه الزيارة. ويبقى سؤال كبير يطرح نفسه هنا، وهو لماذا دفعت أمريكا بهذا المسؤول الكبير لزيارة السودان، وما هي المطالب التي استدعت إرسال مسؤول أمريكي من الوزن الثقيل؟
إننا لم نجد الإجابة إلا هناك في موسكو، التي طار إليها رئيس الجمهورية، وبعد خمسة أيام فقط من مغادرة نائب وزير الخارجية الأمريكي السودان عائداً إلى بلاده، طار الرئيس ليشكو بثه وحزنه إلى بوتين، واستهداف أمريكا لبلده، وأن أمريكا هي التي فصلت جنوب السودان، والآن تسعى لتمزيق ما تبقى منه، وأن المخطط الأمريكي يستهدف إنشاء خمس دول... فإذا ربطنا تصريحات البشير النارية هذه في موسكو، مع ما أثارته الحركة الشعبية/ قطاع الشمال، من مطالبة بحق تقرير المصير للإقليم، وما يثيره الإعلام هذه الأيام فيما يتعلق بحق تقرير المصير للمنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، نجد أنفسنا أمام السبب الحقيقي وراء زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي إلى السودان والحكومة على حافة انهيار اقتصادي، كما قال بذلك الخبراء الاقتصاديون، وهو ما دفع برئيس الجمهورية إلى الاستنجاد بروسيا، أملاً أن ترفع الضيم الأمريكي عنه، بعد أن لبى لها كل مطالبها السابقة واللاحقة.
يا أهل السودان، إن الأمر جد، وليس بالهزل، وإني أنا النذير العريان، وإن الاستعانة بروسيا، كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ إن روسيا دولة عدوة للإسلام والمسلمين، مثلها مثل أمريكا سواء بسواء، فروسيا هي التي قتلت المسلمين في أفغانستان، وكادت أن تبيدهم في الشيشان، وها هي الآن تقتل المسلمين في سوريا صباح مساء، وهي التي أوصلت رسالة أمريكا إلى السودان بالسماح بإجراء استفتاء في جنوب السودان الذي أدى إلى الانفصال. فكيف نأمنها، لتقف بجانبنا أو تعيننا ضد عدو يتربص بالبلاد، وهي نفسها العدو؟! إن الاستعانة يجب أن تكون بالله عز وجل، والاعتماد يجب أن يكون على الأمة التي قوامها المليار ونصف المليار ويزيد، كلهم مستعدون للجهاد والقتال في سبيل الله، بمجرد إشارة من خليفة المسلمين، ولكن هذا لا يكون إلا إذا كانت وجهة الدولة هي لله سبحانه وتعالى، وأن تلتزم خطه ومنهجه في كل شؤونها الداخلية والخارجية، وتتوجه إلى الله بصدق وإخلاص خالص، فالله سبحانه وتعالى ناصرنا لا محالة، وهو يتولى المؤمنين.
رأيك في الموضوع