اختتمت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي جولة نهاية الشهر الماضي شملت السعودية والعراق والأردن، وقال ناطق باسم ماي إن هذه الجولة تُظهر أنّ بريطانيا "مصمّمة على إقامة مستقبل واثق وجريء في العالم"، وذلك في وقت تقترب بريطانيا فيه من مغادرة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُرسل إشارة واضحة إلى أوروبا والعالم بأنّ بريطانيا لن تتأثّر بخروجها من الاتحاد، وأنّها ستبقى دولة فاعلة على المسرح العالمي من ناحية سياسية، وأمّا من الناحية الاقتصادية فإنّها تُخاطب الرأي العام بمثل هذه الجولات بأنّها قادرة على التعويض عن خسائرها الاقتصادية بخروجها من الاتحاد الأوروبي بعد تعثر التوصل إلى اتفاق واضح مع دول الاتحاد، وأنّها ستبقى قوية سياسياً واقتصادياً.
ركّزت ماي في جولتها إلى المنطقة على الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية، ففي محطتها الأولى في العراق اهتمت بالإبقاء على وجودها الأمني فقالت بأنّها ستدعم العراق أمنيا وعسكريا، وأعلنت أنّ بريطانيا ستدرب الضباط العراقيين بالأكاديميات البريطانية، وأضافت بأنّ بلادها سوف تستمر في دعم العراق في مختلف المجالات، وقالت: "نتطلع لبناء علاقات مستمرة مع بغداد".
واضح أنّه من خلال ذلك الدعم الأمني ستُحافظ بريطانيا على حضورها السياسي في العراق وذلك من خلال نسجها علاقات مع العسكريين العراقيين، واطلاعها على مراكز القوة العراقية عن كثب.
وأمّا في السعودية وهي المحطة الأهم في جولتها فلعبت ماي على وتر الناحية الإنسانية في اليمن، ودعت السعودية "لتخفيف الحصار على اليمن لتفادي وقوع كارثة إنسانية"، وتباكت على الشعب اليمني، وقالت بأنّه يجب ألا يقع اليمنيون في مرمى نيران الأطراف المتحاربة، وأشارت إلى أنّ نحو ثلث الشعب اليمني يعاني من انعدام الأمن الغذائي، ووصفت الوضع في اليمن بــ"المؤلم الذي يجب أن ينتهي"، وقالت بأنّها"قلقة جدا بشأن الأزمة الإنسانية التي تعصف باليمن"، وأضافت قائلة: "لذلك فإن الرسالة القوية التي أحملها إلى السعودية تفيد بأننا نريد فتح ميناء الحديدة أمام المساعدات الإنسانية والعمليات التجاريةلتجنب كارثة إنسانية".
فبريطانيا وإعلامها ينشط منذ مدة في التهويل من خطورة الأوضاع الإنسانية في اليمن، وهي التي تقف بشكلٍ مباشر وراء تصعيد حملات الضغط على السعودية لفك الحصار عن اليمن، ولإحراج أمريكا الداعم الرئيسي للسعودية، ولإضعاف الموقف السعودي والأمريكي في اليمن، وهو ما اضطر التحالف بقيادة السعودية التي تُوجّهها الإدارة الأمريكية، للخضوع والسماح بوصول مساعدات إلى صنعاء.
ولقد استقبلت بريطانيا أطراف الأزمة اليمنية الأسبوع الماضي في لندن، وتلعب في هذه الأيام دوراً نشطاً في محاولة حل الأزمة اليمنية مع أمريكا، وتُحاول جاهدةً منع أمريكا من التفرد باليمن، وذلك من خلال نشاطها السياسي المُكثّف، ومن خلال عملائها في جنوب اليمن وشماله، وليس غريباً أنْ يأتي انقلاب عميلها علي عبد الله صالح على حلفائه الحوثيين مُباشرة بُعيد انتهاء جولة ماي في المنطقة، فالانتفاضة التي دعا إليها صالح ضد الحوثيين ربما تقلب الأمور في اليمن رأساً على عقب، وتوهن الموقف الأمريكي بشكلٍ كبير، وتُربك السياسة الأمريكية المتخبطة أصلاً.
فبريطانيا تُريد خلط الأوراق في اليمن لتتقاسم مع أمريكا النفوذ فيه، ولتعطيل الحل الأمريكي الاستئصالي الذي تسعى إليه إدارة ترامب في اليمن، ولإجبارها على القبول بحلول الوسط وبالصفقات السياسية معها.
وأمّا في محطة ماي الأخيرة في الأردن فقد قدّمت بريطانيا مساعدات مالية سخية للحكومة الأردنية المُفلسة لتُمكّنها من الصمود أمام التحديات التي تُحيط بها من كل جانب، فالدولة الأردنية هي قاعدتها الصلبة، وعميلتها العريقة، ولا بد من دعمها بالملايين لإبقائها قادرة على تنفيذ سياساتها، فتحدّثت ماي في كلمة لها خلال زيارتها للأردن عن تلك المساعدات فقالت: "سنقدم 49 مليون دولار دعما للاقتصاد الأردني وتحسين جودة التعليم، وهذه ليست إلا بداية وسيكون هناك زيادات"، وأضافت: "ساعدنا بـ25 مليون جنيه إسترليني لدعم حماية حدود الأردن"،ومن جانبهاأعلنت الحكومة الأردنية أنّها "وقّعت مذكرة تفاهم مع بريطانيا ستقدم بموجبها الأخيرة منحة للمملكة قيمتها 127 مليون دولار لدعم قطاعي التعليم والاقتصاد"، وذلك وفقاً لبيان حكومي.
وهكذا تسعى بريطانيا من خلال مثل هذه الجولة لتيريزا ماي لإعادة تأكيد حضورها في المنطقة بإثبات قدرتها على خلط الأوراق، وبقيامها بلعبة التشويش التي تُجيدها لإرباك السياسات الأمريكية (المتهورة) في عهد ترامب، وذلك بُغية عودةبريطانيا إلى الساحة الدولية بزخمٍ أكبر، وفي مُحاولة جادةلاسترجاع مكانتها الدولية المُتآكلة ولو من خلال اللعب بالملفات الشائكة والمتأزمة، وصب المزيد من الوقود على الحرائق المُشتعلة أصلاً في المنطقة، بهدف بقاء بريطانيا حاضرة في المسرح الدولي بغض النظر عن الآثار الكارثية الناتجة عن تلك السياسة، وهذه هي طبيعة الدول الاستعمارية فهي لا تلتفت عادةً إلاّ إلى مصالحها ونفوذها وعملائها.
رأيك في الموضوع