بعد أن استطاعت ثورة الشام في بدايتها أن تحاصر النظام في دمشق وحلب، قامت القوى الدولية برئاسة أمريكا وأداتها الأمم المتحدة بطرح الحل السياسي، واستخدمت المؤتمرات كفخاخ سياسية، والمليشيات الإيرانية والقوات الروسية كقوة عسكرية لفرض هذه المؤتمرات وإقرار مقررات فيها، وكان أصدقاء الشعب السوري المزيفون هم الضاغط السياسي والأساسي للقبول بهذه الخدع السياسية من مؤتمرات جنيف وفينا والرياض وصولا إلى أستانة التي جُلب إليها المفاوضون جلباً تحت سياط القصف الروسي وضغط الدول الداعمة من مثل تركيا ودويلات الخليج.
هذا الحل السياسي هو ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾، هذا الحل السياسي اتخذ دسيسة الاقتتال وخديعة الهدن والمفاوضات أسلوباً للوصول إلى محاصرة المدن الثائرة، ثم فرض المصالحات أو التهجير وصولا إلى مؤتمرات أستانة لتكبيل ما بقي من الحالة الثورية بما يسمى مناطق خفض التصعيد مع بعض القوى للإجهاز على ما تبقى من المخلصين والحالة الجهادية عبر اقتتال بغيض ودعاوى تشكيل جيش وطني وإدخال الحكومة المؤقتة لتدير مناطق خفض التصعيد استكمالا للاندماج مع النظام في جيش واحد وحكومة وحدة وطنية قد يطلقون عليها خداعا حكومة انتقالية.
في المقابل، تحاول هيئة تحرير الشام الحفاظ على نفسها عبر طرح مبادرة الإدارة المدنية ومحاولة التماهي مع مشروع الحل السياسي، لكن من زاوية الحفاظ على مصالحها ومحاولة الاحتماء والتمترس خلف إدارة مدنية والقبول بخطوات تنازلية وصلت إلى قبول دخول القوات التركية كقوات فصل على أن لا تحارب الهيئة.
إن مخرجات مؤتمر أستانة في الخارج ومؤتمرات الإدارة المدنية في الداخل هي صراع بين مبادرتين، مبادرة المجلس الإسلامي ومبادرة هيئة تحرير الشام للتسلط على المناطق المحررة واستخدامها سلّماً لاستكمال المفاوضات مع النظام وإيران للحصول على نصيب من الكعكة في الحل السياسي. من هنا نجد أن هذه المؤتمرات والإدارة المدنية ما هي إلا حرف للمسار الثوري والجهادي عن هدفه الأساسي ومشروعه الجامع ألا وهو إسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام في خلافة على منهاج النبوة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل ثار أهل الشام وقدموا كل تلك التضحيات من الشهداء والأسرى والجرحى والمشردين والمفقودين لأجل مشاركة النظام في بعض المناصب الوزارية والإدارية؟! فما أجد لهذا التوجه مثالا إلا كما قيل: "تمخض الجبل فولد فأرا"!
إن حقيقة الإدارة المدنية التي يراد منها أن تكون ملهاة وإشغالاً في هذه المرحلة عما يجب أن يُفعل من فتح الجبهات، فهي تتماهى مع الهدن والمفاوضات وخفض التوتر لتكون بعد ذلك أساسا لحكومة مؤقتة ثم تتحول إلى حكومة انتقالية بشراكة وحدة وطنية مع النظام تهدر كل التضحيات وتضيع الهدف الأساسي وتبقي على الدولة العميقة للنظام من أجل الحفاظ على دولة مركزية أمنية بوليسية تحارب الإسلام وتقمع كل توجه نحو إقامة دولة الإسلام، فهل يدرك أولئك وهؤلاء السائرون في هذه المسارات فداحة الجريمة التي يرتكبون بحق ثورة الشام وتضحياتها؟!
إن طرح الإدارة المدنية في الداخل يدل على الفشل الذريع لفصائل كانت تزعم أن لديها مشروعا سياسيا إسلاميا ليتبين أنه ليس لديها أي مشروع وأنها تتخبط خبط عشواء كما الآخرون الذين اتخذوا قيادة سياسية صنعتها السفارات في دهاليزها والمخابرات في أقبيتها، لتتخذ هذه الفصائل شخصيات الإدارة المدنية قيادة سياسية لا نعرف بأي كتاب أم بأي سنة ستدير أمور الناس مما يدل على انعدام المشروع، بل هو الوهم والسراب.
إن القيادة السياسية تقوم على أساس مشروع سياسي واضح وليس على أشخاص لا مشروع عندهم إلا ما يملى عليهم من نتائج المؤتمرات وصولا إلى حل سياسي لا يعلم الناس ما سيكون شكله ولا مضمونه بل يحفظ نفوذ القوة المستكبرة في العالم؛ أمريكا وأدواتها.
أمام هذه الصورة الواضحة للواقع الذي وصلت إليه ثورة الشام وأمام المستقبل المجهول لما يخطط ويكاد لأهل الشام، نقول: إنه لا زال بإمكان الثائرين والمجاهدين المخلصين وبعض القيادات المخلصة إن بقي منها شيء أن يقلبوا الطاولة على هذه المؤتمرات وما وصلت إليه من ترتيبات؛ فلقد وضح ضعف النظام ومليشياته التي تُستنزف في دير الزور وريف حماة من قبل تنظيم الدولة لوحده، فلو استغل المجاهدون هذا الظرف وأشعلوا الجبهات وأعادوا الثورة كما كانت في البداية وتبنوا مشروعا سياسيا واضحا منبثقا من عقيدتهم، مشروع الخلافة على منهاج النبوة واتخذوا قيادة سياسية على أساس هذا المشروع فإنهم قادرون على قلب الطاولة وتغيير المعادلة ناصرين لدين الله واثقين بنصره، فإنهم بذلك يحققون شرط النصر ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
بقلم: محمد سعيد الحمود
رأيك في الموضوع