تأتي أهمية الجانب الغربي أو الساحل الأيمن لمدينة الموصل من وجود أهم المؤسسات الحكومية، مثل مبنى المحافظة والبلدية ورئاسة محكمة نينوى والمجمع الحكومي ومديرية شرطة المحافظة ومؤسسات أخرى، منها معمل السكر ومعسكر الغزلاني ومطار الموصل وغيرها؛ كما أنها مركز (الخلافة الإسلامية المزعومة) لتنظيم الدولة ومقرها، الجامع النوري الكبير، الذي أعلن خلافته منه وأدى خطبة أول جمعة له من منبره، كما يُرجَّح وجود مقرات قيادة التنظيم ومراكز سيطرته ومقرات إقامة قياداته وعوائلهم منذ سيطرته على المدينة التي تمثل معقله الحضري الأخير في العراق.
وسط قساوة وضراوة المعركة سيحاول قادة التنظيم استغلال الكثافة السكانية لعرقلة تقدم القوات العراقية، وإطالة أمد العمليات القتالية وتأخير عملية الحسم العسكري لتأمين مواقع بديلة لقياداته ومقاتليه في دير الزور السورية أو مدن غرب الأنبار للانتقال إليها مع عوائلهم. خصوصا بعد سلسلة خسارات التنظيم لمدن ومناطق سيطرته منذ خسارته تكريت مطلع نيسان/أبريل 2015، بدت استراتيجيات التنظيم تعتمد على استنزاف أكبر قدر من الموارد البشرية والمعدات للقوات العراقية عبر معارك الدفاع عن المدن والمناطق قبل التخلي عنها بأقلِّ قدرٍ من الخسائر البشرية. من شبه المؤكد أن القوات العراقية المدعومة ستحسم معركة استعادة الجانب الغربي من المدينة لصالحها رغم بطء سير المعركةوإن ما تبقى من معركة الموصل قضية أمريكية وسوف تحسم بالطريقة الأمريكية لكن هذا لا يعني نهاية تنظيم الدولة في العراق أو انتهاء تهديداته. وستواجه الحكومة المركزية تحديات ما بعد معركة الموصل فيما يتعلق بإدارة المدينة واقتسام السلطة بين الأطراف العراقية المتنافسة والمختلفة عرقيًّا وطائفيًّا. وهذا ما جعل رئيس الوزراء العراقي يتوجه للبيت الأبيض بطلب من ترامب ليكشف له عن خطة أمريكية لدعم العراق وعن هيكلة الحشد وإعادة الوجود الأمريكي وصندوق أموال لإعادة المدن المدمرة مقابل النفط وإعادة الصحوات في المناطق السنية وخنق إيران أو تحجيم دورها في العراق. ففي كلمة خلال الاجتماع الموسع قال ترامب للعبادي: (بالتأكيد لم يكن ينبغي لنا أن نرحل... ما كان يجب أبدا أن نرحل) وأضاف أن (رحيل القوات الأمريكية خلق فراغا وقد ناقشنا ما حدث خاصة تمدد داعش لكننا سنمضي الكثير من الوقت معك ومع فريقك ونشكركم جميعا شكرا جزيلا على وجودكم هنا، نحن نقدر ذلك)، وأثنى ترامب على الجنود العراقيين الذين يقاتلون بضراوة في الموصل وقال (سنرى ما يمكن أن نفعله لدعمها) مضيفا أن (الهدف الرئيس هو التخلص من التنظيم). ما جعل رئيس الوزراء العراقي متفائلا بإدارة الرئيس ترامب قائلا (ستكون أكثر فاعلية من سابقتها)، في إشارة إلى إدارة أوباما، ثم كشف عن حصوله على تأكيدات من البيت الأبيض بزيادة الدعم الأمريكي للعراق في حربه ضد التنظيم، وفي نقطة أخرى قال ترامب (إن إيران شكلت إحدى القضايا التي جرى الحديث عنها خلال الزيارة)، مضيفا (لقد تساءلت لماذا قام الرئيس باراك أوباما بالتوقيع على اتفاق نووي كهذا مع إيران... لا أحد يفهم ربما يوما ما نتمكن من الفهم).
ولقد ذكر هشام الهاشمي، الخبير في الشؤون السياسية والأمنية العراقية، أن "الجانب الأمريكي بحث مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، خطر "المؤمنين بولاية الفقيه"، وضرورة إبعاد هؤلاء عن الحشد الشعبي، وعن الخطر الذي تشكله إيران في المنطقة برمتها". إلى ذلك، نقل هشام الهاشمي عن مصادر في الوفد المرافق للعبادي قولها، إن الجانب الأمريكي تحدث مع العبادي بشأن حلفاء إيران من الولائيين (المؤمنون بولاية الفقيه) داخل "الحشد الشعبي". وقال الهاشمي، وفق ما نقلت عنه صحيفة "الشرق الأوسط" إن الجانب الأمريكي طالب بـ"إبعاد هؤلاء عن مؤسسة (الحشد) الرسمية وتسليم أسلحتهم الثقيلة، وعدم بقائهم في منظومة الأمن العراقية". في السياق نفسه، كتب عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي رسالة إلى الرئيس دونالد ترامب يطالبون فيها بـ"اغتنام الفرصة لتحقيق هزيمة (داعش) وإعادة بناء العراق بما يتطلب تحقيق لامركزية لبعض مهام الحكومة العراقية وحل المليشيات الموالية لإيران وتلبية الاحتياجات الإنسانية للشعب العراقي والالتزام ببرنامج المصالحة". وجاء في الرسالة: "يجب أن نكون مستعدين لدعم حكومة العبادي، لتمضي قدما وتطمئن جميع العراقيين إلى بناء عراق اتحادي موحد، ومساعدة العراق في برنامج اللامركزية، والمصالحة وإصلاح القطاع الأمني، ومواصلة دعم قوات الأمن العراقية، حتى تتمكن من المشاركة مع القوات الأمريكية في مكافحة الإرهاب".
لقد كان الرئيس الأمريكي واضحا جدا في أنه يريد حليفه العراقي في محاربة (الإرهاب) أن يبتعد من إيران بداية لتحجيم دورها. فقد انتقد الاتفاقية النووية الإيرانية. ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقيّ حيدر العبادي (19 آذار/مارس من عام 2017) إلى واشنطن، ثم زيارة وليّ وليّ العهد السعوديّ محمّد بن سلمان ولقاء الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب، وغيرها، وهي ما أشارت إلى وجود مساع أمريكيّة للتقريب بين بغداد والرياض وتحجيم الدور الإيرانيّ. تبع ذلك زيارة المستشار الأقدم للرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر لبغداد في الرابع من نيسان/أبريل كعلامة على أن أمريكا تريد إبعاد العراق عن إيران. يأتي هذا فيما نقل "المونيتور"، عن مصدر مقرب من رئيس الوزراء أن موضوع تحجيم دور إيران في العراق كان على رأس قائمة الحوارات بين الطرفين. يضاف إلى ذلك إعلان التحالف الوطنيّ (الشيعيّ) عدم معرفته بتفاصيل الزيارة وجدول مباحثات العبادي مع الإدارة الأمريكيّة، واستياء بعض الأطراف السياسيّة الشيعيّة من تلك الزيارة، لا سيّما بعد أن كشف الخبير الأمنيّ والسياسيّ العراقيّ هشام الهاشمي عن تلقّيه معلومات من الوفد العراقيّ في واشنطن تفيد بأنّ "الجانب الأمريكيّ بحث مع حيدر العبادي، خطر "المؤمنين بولاية الفقيه"، وضرورة إبعاد هؤلاء عن الحشد الشعبيّ "الإرهابي". في السياق ذاته، تحدث العبادي أثناء الزيارة عن سعيه إلى تحجيم دور الحشد الشعبيّ "سياسيّاً"، وأبدى رغبته في التقارب مع السعوديّة، وخصوصا بعد لقائه بوزير الخارجيّة السعوديّ عادل الجبير على هامش اجتماع التحالف الدوليّ ضدّ "داعش" في واشنطن في 22 آذار/مارس. ويضع مراقبون لقاءي ترامب بمحمّد بن سلمان والعبادي في دائرة واحدة تشمل أيضاً التوجّه العربيّ الجديد نحو العراق، والذي يأتي منسجماً مع سياسة واشنطن الرامية إلى تحجيم دور إيران في المنطقة، خصوصاً أنّ اللقاء الذي جمع بين ترامب ومحمّد بن سلمان، جرى الحديث فيه علناً عن مخاطر النفوذ الإيرانيّ في المنطقة، ولا يوجد أفضل من العراق لبدء تحجيم النفوذ الإيرانيّ في المنطقة. وعليه، فإنّ الدعم الأمريكيّ للعبادي سيكون مشروطاً أيضاً بالعمل على تقليص النفوذ الإيرانيّ في العراق، وحلّ الفصائل الشيعيّة المسلّحة المنضوية في "الحشد الشعبيّ" أو تحجيمها.
ولعلّ الاستقبال الاستثنائيّ الذي حظي به العبادي من قبل ترامب وأجواء المباحثات بينهما التي وصفت بالإيجابيّة، كانا بمثابة رسائل إلى القيادات الشيعيّة في العراق، عن انحياز العبادي إلى السياسة الأمريكيّة الواضحة والمعلنة ضدّ إيران والقوى الموالية لها، لكنّ فاتورة هذا الانحياز ستكون باهظة على العبادي، الذي سيتوجّب عليه مواجهة حلفاء إيران في بغداد، وإنّ المواجهات الأولى ستكون بالضرورة مع قادة "الحشد الشعبيّ".
وبذلك نرى أن أمريكا تريد استغلال تحرير الموصل لدعم العبادي الذي امتعض كثيرا بسبب عدم تمكنه من إجراء إصلاحات للقضاء على الفساد، وتحقيق مكاسب سياسية يعود ريعها للمشروع الأمريكي في المنطقة لذلك نراها تستعجل في إرسال القوات والتعزيزات العسكرية وترسل طائرات F16 للعراق للمساهمة في دعم المعركة، ويبدو أن مهمة تنظيم الدولة في العراق قد شارفت على الانتهاء لتبقى محصورة بعد ذلك في سوريا التي ستكون نهايتها بعد إيجاد البديل الذي يخدم مصالح أمريكا في سوريا والذي لا يزال صعبا بسبب إصرار أهل سوريا المخلصين على عدم تسليم أعناقهم للكافر وعملائه من ائتلاف الفنادق.
إن مما يؤسف له أن أوضاع المسلمين أصبح الكافر المستعمر هو الذي يتحكم بها، ولذلك نراه يستخدم الطائفية لتفرقة المسلمين والاقتتال فيما بينهم، وكل ذلك بسبب غياب الراعي المخلص للمسلمين الذي يرعى شؤونهم بكتاب الله وسنة رسوله، ولكن عقيدة الإسلام الراسخة في نفوس المسلمين ستطيح بأحلام الكافر المستعمر وعملائه ولو بعد حين. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾...
بقلم: علي البدري - العراق
رأيك في الموضوع