تصاعدت أصداء الحرب الإعلامية التي يشنّها رموز سلطة رام الله على غزة تحت عنوان "خطوات حاسمة-غير مسبوقة" من أجل الحفاظ على الوحدة والثوابت، وقُوبلت بالردود الساخنة من قبل سلطة غزة تحت عناوين الثوابت نفسها من مثل: "حماس لن تبيع ثوابت شعبها بلقمة مسمومة"، بينما ظلّ أهل غزة تحت المعاناة وشقاء العيش، وهذا المقال يجيب على التساؤل المتجدد: هل هي حقا صراعات "مبدئية" على طريق التحرير ومن أجل الثوابت؟ أم مصارعات مصلحية من أجل المكاسب والوزارات والتمويل السياسي الملوث؟
بدأ التصعيد عندما وجّه رئيس السلطة كل ما في جعبته من سهام الضغط أو "الحصار" الاقتصادي نحو غزة دفعة واحدة، "كإجراءات عقابية شديدة" لأهل غزة وهو يدّعي أنّه رئيسهم! وتوعدّهم - بما لم يتوعّد به شركاءه الصهاينة - بأن تصل إلى حد إغراق قطاع غزة في الظلام، وتضمنت الخطوات الأولى خصومات رواتب الموظفين، والتمهيد لإحالتهم على التقاعد المبكر، وخطوات نحو زيادة معدل انقطاع الكهرباء. ونقلت وكالة شهاب (في 12/4/2017) أن تلك الإجراءات "بداية سلسلة قرارات أكثر صعوبة إذا لم تستجب حماس لمبادرة سيحملها وفد من اللجنة المركزية لحركة فتح إلى غزة".
وتتصاعد هذه الإجراءات "العقابية" في ظل الاستخفاف المتواصل من قبل قيادة السلطة بالأتباع، وحشد رئيسها معه الإعلاميين والأبواق التي "تغرّد" في سربه باسم الدين، من مثل محمود الهبّاش، الذي اعتبر أن مستوى ردة فعل سلطة رام الله تجاه سلطة غزة يشبه إحراق مسجد الضرار بأمر الرسول e، وصمتت القيادات الوطنية عن الكلام المباح!
إن التبريرات التي تقدّمها تلك الأبواق هي ضرورة إنهاء الانقسام، مع "قناعة بوجود مخطط كبير لفصل غزة عن الضفة"، وذلك بعد إقدام حماس على تشكيل لجان إدارية لإدارة الحكم في غزة أو "حكومة الأمر الواقع".
إنه مع القناعة بوجود المخلصين ممن أقدموا نحو مسيرة النضال والمقاومة بدافع الواجب، لكن المشاهد المحسوس أن هذه المصارعة هي على إدارة السلطة الخدماتية-الأمنية، وعلى تقاسم الأدوار والأموال، ولا يظهر فيها الصراع على البرامج السياسية، أو على مشروع التحرر، أو على طريقه، كيف يكون ذلك وقد توافق الطرفان منذ سنوات طويلة على ما يسمونه المشروع الوطني القائم على إقامة دويلة في حدود التاريخ الذي يحتفلون فيه بذكرى النكسة (1967)! وكما برز في وثيقة الأسرى الشهيرة، وفي غيرها من الحوارات الوطنية، والاتفاقات التي تم توقيعها في العواصم العربية.
وأمام هذا التنافس البشع على إدارة سلطة هزيلة كَتب عليها من أسّسها أن تعيش تحت الإنعاش دائما، فإن أهل غزة هم الخاسر الوحيد من هذا الضغط وتلك المناكفات الفصائلية، وهم الذين يدفعون ضريبة "المصارعة" الفصائلية المستمرة بين المتنافسين على تلك السلطة المتهالكة والتي أعفت الاحتلال من مسؤولياته.
فأين النضال وأين الثورية وأين المبدئية وأين الحراك التحررّي المقاوم في ظل هذا التنافس السياسي على هذه السلطة التي يصفها المتصارعون عليها في أدبياتهم (التي من المفروض أن تحدد ثوابتهم) بأنها "الكيان المزيف" بل "هو في حقيقة حاله مستعمرة (إسرائيلية)"؟ وذلك حسب وصف بيان منظمة التحرير الأول، بينما خلص الشهيد عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله، في مقاله الشهير هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال، إلى أنّها لا تكون إلا إنجازا احتلاليا، وأن من يديرها يكون كرازاي فلسطين.
سؤال مؤلم على الورق، ولكن نتائجه الواقعية أكثر إيلاما على أهل غزة الذين ظلّوا ضحية لذلك التوهان الفصائلي والتآمر السياسي، وفقدان البوصلة منذ قررت المنظمة الدخول في لعبة المفاوضات ومسيرة التنازلات، ومنذ أخذت سلطة حماس تتبع خطاها: بداية من لغة الغزل السياسي مع الأنظمة العربية، ثم التزيّن في المحافل الدولية، ثم الانغماس في وحل السلطة، وأخيرا اللهث للغطس في مستنقع المنظمة، التي ما تأسست إلا لإيصال قضية فلسطين إلى ما وصلت إليه.
هذه الخلفية تسهم في توضيح غاية قادة المنظمة من هذه الإجراءات، والتي تستهدف سحب البساط من تحت أرجل حماس، وقد لاحظت أنها تسارع الخطى في تقديم نفسها كبديل - إن لم يكن كشريك أساسي في منظمة التحرير - التي أسندت إليها وثيقة الأسرى مهمة التفاوض مع الاحتلال. وتزداد دافعية عباس نحو ذلك وهو يتابع الدعم الذي تحظى به حماس في تركيا وقطر، وبعد انعقاد المؤتمر الفلسطيني في تركيا، الذي نُظر إليه على أنه يؤسس لبديل عن المنظمة، التي يهيمن عليها رئيس السلطة بلا منافس أو منازع، بعدما صفّى "العرفاتيين"، ولم يُبق حوله في الميدان إلا الانقياديين الذين استكانوا أمامه يصفقون له مهما شطح.
وتزامن ذلك التصعيد أيضا مع تصاعد الحديث عن قرب إعلان حركة حماس وثيقتها السياسية الجديدة، التي تشير إلى تعزيز التقارب بين سلطة غزة وبين القوى الدولية، عبر اعتماد لغة سياسية قريبة من - أو متطابقة مع - لغة منظمة التحرير الفلسطينية، وتخلي حماس عن خلفيتها الإخوانية التي تمهّد لتقبلها في مصر، بما قد يعتبره قادة المنظمة تنافسا جديا مع "تمثيلهم" المدَّعى لقضية فلسطين.
ويأتي ذلك كله في أجواء التحضير للقاء المرتقب بين رئيس السلطة مع الرئيس الأمريكي ترامب، وهو الذي يريد أن يثبت للإدارة الأمريكية الجديدة أن سلطته لا زالت قادرة على الرقص على أنغام حل الدولتين الأمريكي، وعلى التطبيل على طاولة المفاوضات، وعلى "طهي الحجارة" في القِدر الأمريكية، ولو كانت بلا نتيجة، طالما أنها تُبقي على مصالحه وعلى مصالح من يرتعون في المزرعة الوطنية الاستثمارية.
وهنا يتجدد التساؤل المرّ: هل أصبحت السلطة غاية بعدما ادّعى أصحابها أنها وسيلة للوصول إلى التحرير، عبر ترويج مبدأ "خذ وطالب"! وهل استكان الجميع أمام فلسفة هذا المشروع الوطني الاستثماري؟
ومن أجل صحوة المخلصين من سكرة الكلمات والخطابات الوطنية، أختم هذا المقال بما استهل به الشهيد الرنتيسي رحمه الله مقاله بأن السلطة "تحفظ للاحتلال مصالحه التي هي في واقع الأمر تتناقض تناقضا جذريا مع المصلحة الوطنية العليا للشعب الذي يرزح تحت الاحتلال، وأقل ما يمكن أن يقال في هذا الأمر أن هذه السلطة سيكون همّها الأول مباركة الاحتلال، والتعاون معه ضد أبناء شعبها، لحفظ أمن الاحتلال، واستقراره، وبقائه، مقابل أن يضمن الاحتلال لتلك السلطة وجودها"... "وإن خلصت النوايا".
فهل يتنافس الفرقاء على غير ذلك مهما خلصت النوايا وسُطرت التبريرات؟!
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
رأيك في الموضوع