انعقدت القمة السابعة والثلاثون لدول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة البحرينية المنامة الأسبوع الماضي، وشاركت بريطانيا فيها ليس بوصفها ضيفة شرف وحسب، بل بوصفها شريكاً استراتيجياً مهمّاً لدول الخليج، وكان حضور رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا مايلافتاً في القمّة لدرجة أنّ حضورها كان طاغياً على جدول أعمالها، ممّا جعلها قمّةً خليجية بريطانية، وليست قمّةً دورية لدول مجلس التعاون الخليجي.
وبالنسبة للبيان الختامي فكان الجانب المُتعلّق منه بدول الخليج باهتاً ومُستنسخاً من بيانات القمم السابقة، ومُصاغاً بعبارات عامّة فضفاضة من مثل: "الدعوة إلى تسريع وتيرة العمل لإنجاز السوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي والربط المائي، وغيرها من المشاريع التنموية التكاملية، وصولا إلى الوحدة الاقتصادية الخليجية الكاملة، بما يعزّز مكانة منطقة مجلس التعاون كمركز مالي واستثماري واقتصادي عالمي"، وهو كلام مُكرّر وباهت ولا واقع له.
أمّا المُهم في هذه القمّة فكان ما تعلّق منها بدور بريطانيا الجديد في الخليج، وتمّ إطلاق (الشراكة الاستراتيجية) الكاملة بين دول المجلس وبريطانيا في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والتجارية.
ففي الجانب العسكري والأمني تحدّثت رئيسة الوزراء تيريزا ماي فقالت إنّ: "أمن الخليج الآن هو أمننا، ولذلك فنحن نستثمر هناك. ولا يتعلق الأمر بالقوة العسكرية فقط، إذ ينبغي علينا العمل معا للرد على التهديدات المتنوعة، ولذلك سنتوصل إلى اتفاقات تعاون جديدة".
وزارت رئيسة ماي فور وصولها إلى البحرين إحدى قطع البحرية البريطانية في الخليج المسمّاة "إتش إم إس أوشن" في قاعدة ميناء خليفة بن سلمان، وتحدثت إلى الجنود عن: "رؤية عالمية للمملكة المتحدة تساهمون جميعكم بدور فعال في تنفيذها"، وذكّرتهم بأن: "منطقة الشرق الأوسط تحتوي على ثلث النفط في العالم، و15% من صادرات الغاز"، وبأنّ: "حماية التدفق التجاري الذي تحظى به المنطقة عبر البحر أمر غاية في الأهمية لضمان استقرار سوق الطاقة، والتأكيد على أن المملكة المتحدة تمتلك أمن الطاقة".
وكانت بريطانيا قد بدأت العام الماضي بناء قاعدة الجفير البحرية في ميناء سلمان خارج العاصمة البحرينية المنامة، وهي أول قاعدة دائمة لها في الشرق الأوسط منذ أربعة عقود، ومن المتوقع أن تكون الجفير هي القاعدة الأم، وتُصبح مركزاً للقوة البحرية البريطانية بصورة رئيسية، على أن تحتضن قاعدة المنهاد في دبي القوة الجوية البريطانية، بينما تكون القوة البرية وقاعدة التدريب للجنود في سلطنة عمان.
وهكذا أعلنت بريطانيا عن عزمها ضمان وجود دائم لقواتها المسلحة في المنطقة، فقالت ماي: "إنّ أمن منطقة الخليج العربي بات أمرا مهما أكثر من أي وقت مضى بالنسبة إلينا"، كما وتعهدت بتخصيص ثلاثة مليارات جنيه إسترليني لتحقيق مشاريع دفاعية في منطقة الخليج، وأعلنت أنّ نفقات بريطانيا على مثل تلك المشاريع في الخليج أكثر من نفقاتها في أي منطقة أخرى من العالم.
وكشفت صحيفة التايمز البريطانية قبل أيام عن أن البحرية الملكية بدأت تتولى القيادة في الخليج بدلاً من الولايات المتحدة، وأشارت الصحيفة إلى أن المدمّرة البحرية البريطانية «إتش. إم. إس. أوشان» تولّت للمرة الأولى عملية القيادة بدلاً عن حاملة الطائرات الأمريكية «يو. إس. إيه. آيزنهاور» في الخليج والتي غادرت المنطقة، وتستضيف «إتش. إم. إس. أوشان» مركز القيادة لسبع قطع بحرية في المنطقة، منها أمريكية وفرنسية، وتغطي عملياتها مساحة ما يقارب 2.5 مليون ميل بحري، ومن جهةٍ أخرى وفي سياقٍ أمني آخر كشفت صحيفة تلغراف عن خطط بريطانية لدعم الإجراءات الأمنية في مطارات دول الخليج، بموازنة تقدر بملايين الدولارات،وذكرت أنه سيتم إرسال خبراء جرائم إلكترونية إلى المنطقة لمساعدة دول الخليج على تعزيز أمنها الإلكتروني.
وخطبت ماي أمام الحاضرين فقالت: "جئت اليوم لأن لدينا تاريخاً حافلاً من المعاهدات السابقة بين بريطانيا ودول الخليج، ونود أن نثبت للعالم بأكمله أن لدينا العديد من الفرص التي سنستغلها معاً"، وأضافت: "أمن الخليج هو أمن بريطانيا أيضاً، والإرهاب الذي يستهدف دول الخليج يستهدف شوارعنا أيضاً".
والتزمت ماي بالتصدي لما أسمته بالخطر الإيراني فقالت: "إنني مفتوحة العينين حيال التهديد الذي تمثله إيران للخليج والشرق الأوسط على نطاق واسع"، وتعهدت بـــــ"العمل سوياً لردع تصرفات إيران العدوانية في المنطقة سواء أكان ذلك في لبنان، أو اليمن، أو سوريا، أو الخليج"، وبدوره قال وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون: "عندما ننظر إلى ما يحصل في اليمن، فإن يد إيران ظاهرة بوضوح"، وبذلكتكون بريطانيا قد تبنّت وبشكلٍ علني خطّاً مُتصلباً واضحاً تجاه إيران يختلف تماماً عن الخط الأمريكي والأممي المُتواطئ معها.
وأمّا على المُستوى التجاري والاقتصادي فقد تمّ الاتفاق على تشكيل مجموعة عمل مشتركة لترتيب العلاقات التجارية، ولعقد مؤتمر خليجي بريطاني العام المقبل في لندن، والتوصل إلى ترتيبات للتجارة الحرة مع دول الخليج الست، وذلك في أعقاب تنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد تمّ الكشف عن قيام الحكومة البريطانية بتهيئة الأرضية لدفع العلاقات الاقتصادية في المستقبل إلى مستويات أعلى، ومنح الشركات البريطانية فرصاً ومشاريع استثمارية مهمة في دول الخليج، تشمل 15 قطاعاً بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني على امتداد خمسة أعوام، ووصفت ماي هذه العلاقات المُستقبلية بقولها: "رخاؤكم هو رخاؤنا تماماً مثلما أن أمن الخليج هو أمننا"،كما أكّدت على أن بريطانيا تعمل حاليًا على جعل العاصمة البريطانية لندن "عاصمة للاستثمار الإسلامي"، ونبّهت إلى أنّ: "دول الخليج تعد أكبر مستثمر في بريطانيا، وثاني أكبر سوق تصدير لدى بلادها خارج أوروبا"، وتبلغ قيمة الاستثمارات الخليجية في بريطانيا 150 مليار جنيه إسترليني، في حين بلغ حجم التجارة الثنائية بين دول مجلس التعاون وبريطانيا العام الماضي أكثر من ثلاثين مليار جنيه إسترليني.
إنّ هذه الاتفاقيات وهذه البيانات وهذه التصريحات لا شك أنّها تؤكّد بأنّ بريطانيا قد عادت إلى المنطقة بوجه استعماري سافر، مُستغلّةً ما قد يبدو أنّه شكل من أشكال الانكفاء الأمريكي بعد فوز ترامب بالرئاسة، ومُستفيدةً من التحرر من قيود الاتحاد الأوروبي بعد خروجها منه، لذلك جاءت ماي لتُعيد ترتيب أوضاع عملائها في الخليج، ولتملأ فراغاً استراتيجياً مُتوقّعاً حُدوثه في المنطقة.
رأيك في الموضوع