إنّ ما حصل في الهلال النفطي - إذا أخذ في سياق الصراع الدولي والمحلي - لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباَ، إلاّ من حيث التوقيت وسرعة التنفيذ، فهو إجراء متوقع كرد فعل على ما يجري في سرت لخلق توازن بين قوتين أو طرفين في شرق البلاد وغربها. ولإيجاد وفرض واقع على الأرض من أجل المساومة والتفاوض وإثبات الوجود. وربما يكون هذا التحرك قد تأخّر بعض الوقت، إذا عرفنا أنه قد خطط له منذ شهرين أو أكثر كما قيل، وإذا عرفنا أنّ حفتر قد أمهل مدة شهر من أطراف إقليميَّة ليحسم أمره في المناطق الشرقية، وقد لاحظنا كيف أنه كثّف جهوده وغاراته في المدة الماضية على بنغازي ودرنه، ولكنه فشل، فقام بهذه الخطوة الأخيرة ليحسم أمره، ويعوّض فشله، ويفرض نفسه في المشهد السِّياسي والعسكري بدعم من أطراف دولية وإقليميّه، وبمساعدة بعض القبائل في المنطقة الشرقية ومنها قبيلة المغاربة في أجدابيا التي سهَّلت له السَّيطرة على الموانئ النفطيَّة، بمنع أبنائها في حرس المنشآت من مقاومته، أو بتخلّيها عنهم.
أمّا ما يمكن أن يترتب على هذه الخطوة، وما يمكن أن نفهمه من هذا المشهد الجديد في ليبيا فهو الآتي: يبدو أن أمريكا قد حسمت أمرها في إبقاء حفتر في المشهد، ودعمه وتمكينه بعد أن نجح طوال هذا الوقت في الهيمنة على مجلس النواب، وفي عرقلة وإفشال كل الحوارات والاتفاقات والمصالحات، بما في ذلك اتفاق الصّخيرات الذي أصبح الآن محل إعادة نظر حتّى من بعض الأطراف الدولية، ناهيك عن الأطراف الليبيّة... ويمكن أن نذكر هنا ما يطالب به مارتن كوبلر منذ مدة من أن يكون لحفتر دور في الحلّ وفي الجيش، وهذا مخالف لاتفاق الصّخيرات!!
ونذكر هنا أيضاً ما صرّح به وزير الدفاع البريطاني منذ أيام قليلة، حيث دعا كلاً من السّراج وحفتر إلى الجلوس على طاولة واحدة، لإيجاد تسوية للوضع، وهو كذلك مخالف لاتفاق الصخيرات مع أنّ بريطانيا من أكبر المتحمِّسين والداعمين لهذا الاتفاق، وقل مثل ذلك عن أمريكا وفرنسا وإيطاليا ومطالبتهم بأن يكون حفتر جزءاً من الحلّ. وذلك يعني أن يلغى اتفاق الصخيرات أو يعدّل وربما في سياق النقطة التي يُكرِّرها كوبلر دائماً وهي أن يكون لحفتر دور في تكوين جيش موحّد. عقد في مدينة غربان في الأيام الماضية مؤتمر لضباط الجيش في المناطق الغربّية والجنوبية، وقيل أيضا ضباط من المنطقة الشرقية، وقالوا إنهم يحضّرون للملتقى السّادس لضباط الجيش الذي سيعقد في المدة القادمة، وسيعلن فيه تعيين القيادات العليا للجيش... وهنا نعود إلى موضوع الهلال النفطي، والموانئ النفطية... ونذّكر أنّ حفتر بعد سيطرته على تلك الموانئ، أعلن أنه سيسلِّمها إلى مؤسسة النفط، لتتولى الإشراف على الإنتاج والتصدير، وربما أراد بذلك أن يرضي الدول الغربية والدول التي لها علاقة بالنفط الليبي، وأن يطمئن أهل ليبييا بأنه إنما جاء لحماية تلك الموانئ، وتأمين تصدير النفط ليعود عليهم بالرخاء والاستقرار.
وهو يتحدث دائماً عن تحرير طرابلس، وأن قواته قريبة منها، وقد صرّح أخيراً لجريدة الأهرام بأن طرابلس ستحرر بدون قطرة دم، وربما يشير بذلك إلى أن لديه أنصاراً وخلايا نائمة داخل طرابلس سيقومون بتحريرها من داخلها، ولا يضطر هو وجيشه إلى المجيء إليها من خارجها. وهو يعتبر أن سيطرته على الهلال النفطي ووصول قواته إلى شرق سرت هو أمر داعم ومشجّع لأنصاره في المناطق الغربية لتجميع صفوفهم والزحف على طرابلس من مناطق عدة. خاصة في هذه الأوقات التي فيها الكثير من الكتائب التابعة لمصراتة، ومن معها من كتائب الثوار من المناطق الأخرى منشغلة منذ شهور في معركة سرت بل منهكة ومثخنة بالجراح، وهو يعرف - أعني حفتر - أنّ هذه الكتائب الموجودة في معركة سرت لا تستطيع في الوقت الحاضر أن تتجه شرقاً إلى الهلال النفطي ولا إلى غيره، ولا أن تترك معركتها في سرت وترجع إلى طرابلس لحمايتها من أنصاره وخلاياه، فهي في مأزق وموقف حرج لا تحسد عليه. وربما هذا الوضع هو الذي دفعه إلى اختيار هذا التوقيت للزحف غرباً إلى أكثر من الهلال النفطي، ومما ساعده على ذلك أيضاً إطالة مدة معركة سرت التي كنا نسمع عنها في شهورها الأولى أنها قاربت على الحسم وأنها في مرحلتها الأخيرة، وإذا بنا نسمع في الأيام القريبة الماضية من الناطق باسم غرفة العمليات في سرت أن المعركة ستطول إلى عدة أشهر، مع تكرار التصريحات بأن تنظيم الدولة محاصر في مساحة كيلو متر مربع واحد!!.
وقد يكون تمديد معركة سرت من أجل عدة أمور: منها أن تبقى هذه الكتائب مشغولة بمعركة سرت حتّى لا تتجه شرقاً إلى الهلال النفطي أو إلى مساعدة إخوانهم في بنغازي. وكان هذا بضغط وتوجيه من أمريكا بعد تدخلها في سرت وادعائها التنسيق مع تلك الكتائب. فقد تسرّبت معلومات بأن أمريكا تعرقل وتحدّ من تقدّم الثوار في المعركة، وتؤخر حسمها وهي تريد بذلك إتاحة الفرصة لعميلها حفتر وتمكينه من السيطرة على الموانئ النفطية، والمناطق الشرقية. ومن هذه الأمور أيضاً أن تبقى هذه الكتائب وهؤلاء الثوار مشغولين في معارك سرت حتى لا يعودوا إلى طرابلس ويسبّبوا الإزعاج والمشاكل لما يسمى "بحكومة الوفاق" أو يمنعوا أنصار حفتر أو أتباع النظام السّابق من الوصول إلى طرابلس.
وقد يكون من هذه الأمور كذلك أن تلك الكتائب وأولئك الثوار أرادوا أن يحافظوا على كثافة وجودهم في سرت حتى يمنعوا قوات حفتر من الوصول إليها أو التوجه إلى مصراتة وغيرها غرباً. وقد يكون من بين الأمور الأخرى التي تترتب على تمديد وإطالة معركة سرت أن يجد أفراد "تنظيم الدولة" متسعاً من الوقت للخروج من المدينة بطريقة أو بأخرى، ومحاولة التسرّب إلى مدن ومناطق أخرى من ليبيا، وهذا ما تريده أمريكا لتبقى شماعة وفزاعة "داعش والإرهاب" جاهزة في المشهد باستمرار لتتخذ ذريعة ومبرراً للتدخل الدولي، وبالذات التدخل الأمريكي باعتبار أن أمريكا هي قائدة ما يسمى "بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" كما هو حاصل الآن في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وغيرها. فأمريكا تريد بعد أن يتم تحرير سرت أن تتجه إلى مدن ومناطق أخرى في ليبيا - بحجة أن "أفراد التنظيم" قد فرّوا من سرت إليها، وهي لا تمانع في فرارهم إلى مدن أخرى لكي تمدد هي من فترة بقائها في البلاد تسرح وتمرح بطائراتها وخبرائها، وإلا فماذا تعني هذه العرقلة التي تقوم بها لمنع الثوار من التقدم وحسم المعركة، وماذا يعني هذا التباطؤ وعدم الجدية من طرف أمريكا في هذه المعركة؟!!.
فبعد أن كنا نسمع قبل المعركة عن تلك الأعداد الكبيرة لأفراد التنظيم في سرت، وعن تلك المبالغات والتهويلات والتخويف من خطورة هذا التنظيم، والاستعدادات الدولية والمحلية لمواجهته... ها نحن اليوم بعد بدء المعركة وتقدّم الثوار في أغلب مناطق المدينة وسيطرتهم عليها لا نرى ولا نسمع عن تلك الآلاف من أفراد التنظيم التي كان يقدرها الخبراء وأجهزة الاستخبارات الدولية، وكان الإعلام المضلل في الداخل والخارج يروجها وينشرها لإثارة الرأي العام، والتمهيد لطلب التدخل الخارجي وهو ما تم بالفعل - مع الأسف الشديد - وهو ما نراه الآن في شكل هذه الضربات والطلعات الجوية الاستعراضية التي تقوم بها أمريكا على مواقع التنظيم، وتحرص على تعدادها أكثر من حرصها على إصابة هذه الضربات أهدافها وكأنّهم يعدّون فاتورة الحساب ليقبضوا ثمن هذه الضربات والصواريخ في المستقبل من قوت أهل ليبيا بعد أن يعملوا على زيادة إنتاج النفط وتصديره!! وها نحن كذلك ومنذ حوالي شهرين نسمع أن أفراد التنظيم محاصرون من جميع الجهات في مساحة كيلو متر مربع أو أقل، وهي مساحة لا تكفي لاستيعاب أفراد التنظيم لو كانوا بالآلاف - كما قيل - حتى ولو كانوا واقفين أو جالسين، ناهيك عن كونهم محاربين بعتادهم وآلياتهم!!.. وفي هذه المساحة المحاصرة، وهذا الكيلو متر المربع نسمع عشرات الضربات من أحدث الطائرات لهذه الدولة الكبرى، ولا نفهم كيف يتم التفريق بين العدو والصديق في هذه المساحة الضيقة حتى لا يصاب الصديق بالنيران الصديقة أثناء القصف!! ولا نفهم كيف لم ينته أفراد هذا التنظيم عن آخرهم في مدينة سرت إذا علمنا أن عددهم الآن لا يجاوز الخمسة والسبعين شخصاً في الكيلو متر المحاصر، وذلك حسب ما صرّح به أحد القادة العسكريين هناك على إحدى القنوات الفضائية؟!!.
وهكذا نرى كيف تتصرف هذه الدول الاستعمارية الكبرى باستخفاف بالعقول، وبمصائر الشعوب والضحك على الناس، وكيف تسخّر الإعلام المضلل هنا وهناك بمختلف وسائله ليروج لمشاريعها وأهدافها، وكيف اخترعت واستغلت هذه الفزاعة.. فزاعة (الإرهاب) وبالذات في بلاد المسلمين وبين الجماعات الإسلامية دون غيرها من "مافيات العالم" في أنحاء الدنيا. وكيف اخترعت هذه الدولة الكبرى الشريرة أمريكا ما يسمى "بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" ونجحت في جعل العشرات من دول العالم، ومن حكام البلاد الإسلامية والعربية بالذات يتسابقون إلى الانضمام إلى هذا التحالف، وجعلوا بلدانهم مستباحة لأعداء الإسلام، ومسرحاً لطائراتهم وسفنهم وخبرائهم واستخباراتهم، وميداناً لتدريب جيوشهم وتجاربهم العسكرية والحربية!!..
وختاماً نقول: إنه وبالرغم من هذه الأحلاف والتحالفات وهذا التكالب على أمتنا من الشرق والغرب ومن كل مكان... فإنّ أمتنا الإسلامية العظيمة بشبابها المخلصين الواعين ودعاتها الصادقين ستنتصر بإذن الله، وما تزيدها هذه المحن والشدائد إلا إيماناً وعزيمة وصبراً ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
بقلم: محمد الصّادق
رأيك في الموضوع