في مقال لاذع نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بعنوان (دعونا نخلص العالم من الوهابية) هاجم فيه السعودية بِحدّة ومن دون مُواربة، واتهمها بنشر "آيديولوجية الكراهية والموت"، وقال فيه: "إن المملكة هي السبب في زعزعة استقرار المنطقة وليس إيران"، وأضاف: "إن محاولة السعوديين إرجاع عقارب الساعة للوراء، والعودة إلى الوضع الذي كان قائماً في زمن الرئيس العراقي صدام حسين لن تنجح"، وأكّد أنّ: "النزاع السني - الوهابي هو سبب العنف وليس النزاع السني - الشيعي".
وأهميّة نشر هذا المقال في هذا التوقيت آتيةٌ من جهتين: كونه نُشِر في أهم صحيفة أمريكية وهي صحيفة النيويورك تايمز، وكون ظريف يقف على رأس الدبلوماسية الإيرانية، فهجومه الناري هذا ضد السعودية، واعتبارها السبب في زعزعة أمن المنطقة، ونشر الاضطراب فيها، قد ألقى بظلالٍ قاتمةٍ على العلاقات المُتوتّرة أصلاً بين السعودية وإيران.
وتزامن هذا الهجوم الإيراني الرسمي على السعودية مع صدور قرار من الكونغرس الأمريكي، وبالأغلبية الساحقة، يقضي بإدانة السعودية، وإثبات ضلوعها في أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، فهذا التزامن لم يأت عبثا، فهو أمرٌ مقصود لذاته.
وكانت إيران قد بدأت في تصعيد لهجتها ضدّ السعودية عندما قال مرشدها علي خامنئي في 5/9/2016: "إنّ على العالم الإسلامي إعادة التفكير بطريقة جوهرية في طريقة إدارة الحج، معللا ذلك بسبب السلوك القمعي لحكام السعودية تجاه ضيوف الرحمن"، ووصف السعودية بـ"الشجرة الملعونة".
وهاجم خطباء إيران بدورهم السعودية، فقال آية الله أحمد خاتمي أمام آلاف المصلين: "إنّ آل سعود قد أساؤوا لكل الإيرانيين، ولمن يسعى إلى إحياء الإسلام المحمدي الصحيح"، ووصف حكام السعودية بأنهم "خائنو الحرمين الشريفين"، وهاجم بدوره المرجع الديني الشيعي ناصر مكارم شيرازي السعودية ووصفها بأنّها "مركز الوهابية"، وقال بأنّ هناك فتاوى وكتبا تعتبر الوهابية: "ليست من الإسلام"، وبأنّها تُمثّل: "أكبر الأخطار المحدقة بالعالم الإسلامي والبشرية"، طبقاً لما نقلته عنه وكالة تسنيم الإيرانية.
وردّ مفتي عام السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على تصريحات خامنئي متهما إياه بـ"العداء للإسلام"، والتحدث من منطلق الخلاف مع الطائفة السنية وقال: "إن تهجّم خامنئي على السعودية أمر غير مستغرب، ويجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمر قديم، وتحديدا مع أهل السنة والجماعة."
أمّا الموقف الأمريكي من هذا التصعيد المتبادل فهو موقف مُشجّع لإيران، ومنحاز لها، فأمريكا على سبيل المثال لا تُدخل المليشيات الطائفية المدعومة من إيران في خانة (الإرهاب) مهما ارتكبت من أعمال إرهابية وإجرامية، وإنّما تقتصر فقط في إطلاق صفة (الإرهاب) على المجموعات المناوئة لسياستها في سوريا وغيرها، وتنحاز أمريكا في اليمن لصالح الحوثيين المدعومين من إيران ضدّ رغبة السعوديين، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في وقتٍ سابق: "أن دعمها للمملكة العربية السعودية في حرب اليمن أصبح متواضعا بعد تصاعد القتال مجدّداً في الفترة الأخيرة"، وأكّدت أنّ دعمها لها: "ليس شيكاً على بياض"، وذلك وفقاً لما نقلته الـ CNN، ومن جهتها كشفت رويترز في تقرير لها أنّ الولايات المتحدة سحبت عسكرييها من خلية استشارية في السعودية، ونقلت قول المتحدث باسم البنتاغون آدم ستامب في بيان له: "إنّ فريق خلية التخطيط المشترك الذي كان في السعودية انتقل إلى البحرين من أجل استفادة أفضل"، وفي الوقت الذي تنتقد فيه أمريكا بشدّة تزايد سقوط القتلى من المدنيين بسبب الغارات السعودية، فإنّها تصْمِت عن ذكر القتلى من السعوديين المدنيين الذين يسقطون بسبب الصواريخ التي يُطلقها الحوثيون على المدن السعودية، وقد نقلت مجلة الإيكونوميست تقريراً خطيراً كتبه مندوبها لدى زيارته للجبهة السعودية الجنوبية، قال فيه: "إنّ صواريخ الحوثيين تضرب في وسط المدينة، حتى إنّ إحداها من نوع (كاتيوشا) سقط على بعد أمتار من مقر الجنرال سعد العليان، قائد هذه المنطقة، ودمر نوافذ مكتبه، ودمّر الواجهة الزجاجية لفندق جديد من المقرر افتتاحه بعد بضعة أيام"، وأكّد التقرير: "إنّ أهالي نجران هجروا منازلهم في المدينة إلى أطرافها الشمالية بحثا عن الأمان، وإنّ أكثر من 7000 مواطن جرى إجلاؤهم من قراهم الحدودية لتأمينهم في أماكن أخرى".
وقد ازدادت حدّة المعارك شراسةً على الحدود اليمنية السعودية، وهو ما أدّى إلى إحراج السعودية، والضغط عليها، لتُقدّم المزيد من التنازلات للحوثيين، فأمريكا من الواضح أنّها تُمارس بحق السعودية سياسة ابتزاز مكشوفة، فتُلوّح لها بتصعيد المعارك في المناطق الحدودية للسعودية، وبزيادة إطلاق الصواريخ الحوثية على مدنها الجنوبية إذا ما تلكأت في قبول شروطها المجحفة، والتي تمّ تسريبها عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومن تلك التسريبات ما نقلته شبكة BBC حيث كشفت عن بنود خطة كيري لليمن، وظهر فيها أنّها لا تعترف بحكومة عبد ربه منصور هادي بصفتها تُمثّل الشرعية، كما تصفها عادةً وسائل الإعلام السعودية، وقد بدت الخُطّة منحازة تماماً للحوثيين، وهي تُقسّم السلطة إلى ثلاثة أثلاث، ثلث لحكومة هادي، وثلث للحوثيين، وثلث لجماعة علي عبد الله صالح.
إنّ أمريكا تستخدم إيران بِحِرَفية سياسية عالية لابتزاز السعودية، ولجعلها تُسرّع في اتخاذ الخطوات المطلوبة باتجاه تغيير سياساتها القديمة، ولحملها على التخفيف من تحكّم الفكر الوهابي في خطابها الديني، لذلك فهي تُسلّط إيران عليها، وتجعلها تُهاجم بشدة الفكر الوهابي الذي "تلتزم" به السعودية، ويُحاول الأمير محمد بن سلمان عرّاب أمريكا الجديد داخل السعودية إرضاء أمريكا بكل ما يستطيع في مواجهة المؤسّسة الدينية السعودية القوية، وقد اتخذ إجراءات قاسية جديدة ضد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية لإضعافها ثمّ لإلغائها نهائياً.
فأمريكا في الظاهر تُعلن أنّها تقف مع السعودية، لكنّها في الحقيقة تميل لصالح إيران، فمنذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران تعمل أمريكا بوضوح على تقوية مليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن، وتقف في البحرين بجانب حركة الوفاق المدعومة من إيران، فتُدافع عنها بحجة الدفاع عن الحريات، وتمنع السعودية من تقديم المساعدات للفصائل التابعة لها في سوريا، بينما لا تعترض ولو بكلمة واحدة على نشاط المليشيات الطائفية الإيرانية والعراقية والأفغانية في سوريا، في حين تسمح لروسيا بتنسيق عدوانها على ثورة الشام مع إيران ومليشياتها، ولا تُسجَل أي اعتراض على ذلك.
إنّ أمريكا تنحاز كلامياً إلى جانب السعودية بينما تنحاز فعلياً إلى جانب إيران، والدليل على ذلك أنّ ما يُسمّى بالحشد الشعبي التابع لإيران في العراق يتحرك بحرية، بل وأحياناً تُنسّق معه أمريكا عملياتها من الجو، وأنّ المليشيات التابعة لإيران في سوريا لا تعترض أمريكا على وجودها بالرغم من كونها مليشيات أجنبية من جنسيات غير سورية، وأنّ الحوثيين في اليمن كلما تراجعت قواتهم في الجبهات، وأوشكوا على الهزيمة، تحرّكت أمريكا، وتحرّك معها مبعوثها الأممي، وسارع إلى إنقاذ الحوثيين بإبرام هدن جديدة لإعادة تجميع قواهم، والعودة للقتال من جديد وبكفاءة أكبر، لدرجة أنّ أمريكا قد أوقفت إمدادات السعودية بالقنابل التي تستخدمها ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
إنّ النظام في إيران تابع في سياسته الخارجية لأمريكا بنفس مستوى تبعية النظام السعودي لها، ولكنّ الفرق بينهما من منظور المصالح الأمريكية أنّ المصالح الحقيقية لأمريكا تتحقّق بشكلٍ أكثر نجاعةً مع إيران، لكونها قدّمت لها - وما تزال - خدمات هائلة من ناحية جيوسياسية في العقود الثلاثة الماضية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن ومنطقة الخليج، في حين لم تنظر أمريكا للسعودية إلا بوصفها بقرة حلوباً بدأ ضرعها بالجفاف والنضوب.
إنّ سير حكام السعودية وإيران مع المخطّطات الأمريكية لن يُفيد لا إيران ولا السعودية، لا في تحقيق مصالح الشعوب ولا حتى في تحقيق مصالح الحكام في البلدين، فأمريكا عند انتهاء مصالحها تركل تلك القيادات برجلها، وتبحث عن مصالحها لدى قيادات جديدة، فعمالة القيادتين الإيرانية والسعودية قد حوّل الدولتين إلى خادمتين تابعتين ذليلتين لأمريكا في سياساتها الإقليمية، وإنّ استخدام إيران للشعارات الرنّانة لن يُسعفها في كسب قلوب الجماهير المخدوعة في المدى المنظور، كذلك استخدام السعودية للّعب على الوتر الطائفي لن يُفيدها في تغطية ولائها لأمريكا، وإنّ خيانة هذه القيادات في البلدين ستدفع الشعوب الإسلامية إنْ عاجلاً أو آجلاً للانتفاضة عليها، والتخلص منها، لأنّ الأمّة لا تُعطي زمام قيادتها للخونة الذين افتُضح أمرهم، وبانت عوراتهم، وظهرت تبعيتهم للغرب بشكلٍ لا لبس فيه.
رأيك في الموضوع