تتفاقم المشاكل السياسية في العراق يوماً بعد يوم، ويتولّد عنها مشاكل أخرى متنوّعة كالأمنية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية، فلا يوجد هناك أي أفق لحل أية مشكلة منها ما دام النظام السياسي القائم في بغداد يسير وفقاً لما تُريده أمريكا، ويمضي تبعاً لما ترتضيه إيران، وقد تحدّث السفير الأمريكي الأسبق في العراق زلماي خليل زادة صراحة عن تلك الثنائية المتلازمة التي تضبط شؤون العراق فقال: "إنّ تمديد ولاية ثانية لنوري المالكي كان بالتنسيق والتشاور بين أمريكا وإيران".
فالعراق في كل عام يحجز لنفسه موقعاً مضموناً في قائمة الدول الأكثر فساداً وفشلاً في العالم، وذلك إلى جانب أفغانستان والصومال والسودان، على الرغم من غناه الطائل، وثروته النفطية الهائلة.
لقد اندلعت الأزمة السياسية الأخيرة في العراق بعد أن سيّر مقتدى الصدر مظاهرات حاشدة نحو المنطقة الخضراء، وأمهل حكومة حيدر العبادي خمسة وأربعين يوماً لتقوم بإصلاحات جدّية، على رأسها تشكيل حكومة تكنوقراط تُلغي فكرة المحاصصة الحزبية والسياسية والطائفية المتبعة منذ قدوم الاحتلال الأمريكي إلى العراق في العام 2003.
ثمّ خضع العبادي لمطالب الصدر وقدّم أسماء المرشحين للوزارة من التكنوقراط حصراً، وهو ما دفع الصدر إلى إيقاف التظاهرات، والإعلان عن نجاحها في تحقيق هدفها، لكن الأمور تعطّلت بعد ذلك بسبب تدّخل الأحزاب المشاركة في السلطة، والتي أصرّت على الاحتفاظ بمكاسبها، وترشيح أعضاء آخرين من المنتسبين لها، فتغيّرت القائمة الأولى من مرشحي التكنوقراط المستقلين، ووجدت قائمة جديدة من المرشحين الحزبيين، ووقع خلاف شديد حول تسمية الوزراء، وهو ما تسبّب في عودة المشكلة مرّةً أخرى إلى مربعها الأول، ولكن هذه المرّة تغيّر أسلوب الاحتجاج، فبدلاً من أنْ يكون عن طريق المتظاهرين وحدهم، أصبح الاحتجاج من خلال النوّاب الذين اعتصموا داخل البرلمان، وعطّلوا الحياة النيابية، وصعّدوا في مطالبهم، وأصبحوا ينادون باستقالة الرئاسات الثلاث وهي: رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة ورئاسة البرلمان، ومن ثمّ إجراء انتخابات جديدة.
قال النائب اسكندر وتوت: "إنّ اعتصام النواب داخل البرلمان هو من أجل إنهاء المحاصصة السياسية، ورفض تدخل القوى والأحزاب السياسية في اختيار الوزراء الجدد"، وأكّد على أنّ النواب المعتصمين "يسعون إلى إسقاط الرئاسات الثلاث بعد جمع تواقيع حجب الثقة عنها".
إنّ الأزمة التي نشأت عن اعتصام النواب هي أشدّ عمقاً من أزمة تسيير المظاهرات، وفيها قابلية لانفجار الأحداث، وتوقّع ما هو غير متوقع، وذلك لأنّ النواب يستطيعون باعتصامهم هذا تعطيل الحياة السياسية، وشلّ كل أعمال الدولة، وإغلاق كل الأبواب السياسية الممكنة لحل الأزمة بالطرق الترقيعية، وقد نجم عن هذا الاعتصام استقطاب شديد للقوى السياسية المتصارعة، واحتكاك سياسي عنيف فيما بينها، أدّى إلى نشر عرائض مختلفة، ووقوع اشتباكات بالأيدي تحت قبة البرلمان، كما أدّى إلى وجود رئيسين للبرلمان، وتحوّل البرلمان - في الواقع - إلى تجمّعات لمجموعات سياسية متنافرة، تعيش في حالة فوضى سياسية عارمة.
لقد استطاع مقتدى الصدر بتحريك الشارع أولاً، ثمّ بتحريك النواب ثانياً أن يُثبت قدرته على صناعة الأحداث السياسية، وقدّم نفسه لأهل العراق ولأمريكا وإيران على أنّه القائد الذي لا يتقدمه أحد، وبالتالي فهو جدير بأن يكون الرجل رقم واحد في عراق المستقبل.
حاول عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى منافسته، فدعا إلى مظاهرات مليونية، والتقى بالسفراء والشخصيات الدبلوماسية، ومن هذه الشخصيات مبعوث الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي بيرت ماغورك، ومنها أيضاً ممثل الأمين العام للأمم لمتحدة في العراق يان كوبيش، وقدّم لهذه الشخصيات مبادرة للخروج بالعراق من أزمته الحالية، ونال ثناءً من تلك الشخصيات على مبادرته، لكنّه لم يرقَ إلى مستوى الصدر في التأثير على الجماهير، وفي استجابة الناس لنداءاته.
إنّ من أهم عوامل نجاح الصدر في قيادته للشارع العراقي: زعمه أنّه غير طائفي، وعدم ظهور أي علاقات له تربطه مع أمريكا، ومعاداته لنوري المالكي الذي ملأ العراق طائفية وفساداً، واستغلال الضعف الشديد لشخصية العبادي مقارنةً بسلفه المالكي، وكونه ما زال عضواً في حزب الدعوة الذي يرأسه نوري المالكي.
غير أنّ نجاحه في الوصول إلى السلطة - شأنه شأن غيره - مرهون بتعاونه مع أمريكا، وتنسيقه مع إيران بشكل علني، ويبدو أنّ أمريكا حتى الآن لم تُقرّر الاستغناء عن حيدر العبادي، فقد جاء في تقرير لوكالة رويترز للأنباء ذكرت فيه أنّه ما زال هناك تحالف أمريكي إيراني ضمني لدعم العبادي، وقد نُقل هذا التقرير عن سجّاد جياد - وهو محلل يقدم المشورة إلى رئيس الوزراء - قوله: "إنّ الأمريكيين والإيرانيين والسيستاني كان لهم جميعاً الرأي نفسه بإبقاء العبادي في السلطة، وتعيين وزراء جدد".
لذلك فدور مقتدى الصدر في تصدّر المشهد السياسي في العراق لم يحن بعد، وستقوم أمريكا بحل هذه المشكلة حلاً ترقيعياً كعادتها، وذلك من خلال ترضية جميع الأطراف المؤثرة في الملعب السياسي العراقي، لكنّ هذا الحل لن يكون إلاّ حلاً تسكينياً، وستعود الأزمة لتتفاعل من جديد، عند مواجهة أبسط مشكلة، وسيبقى العراق الحزين تتقاذفه الأزمات السياسية، والصراعات الطائفية والمصلحية، إلى أن يكرم الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ستقطع دابر أمريكا، وتحرر العراق وبلاد المسلمين كافة من ربقة الاستعمار، وعسى أن يكون ذلك قريبا.
رأيك في الموضوع