تقلبت الأحداث على أهل الشام وتبدلت عليهم الأحوال خلال العام الفائت من عمر الثورة على وجه يختلف قليلا عن بقية أعوامها السابقة، فقد كان أبرز حدث في العام الخامس هو استجلاب أمريكا للتدخل الروسي في النصف الثاني منه بعد أن أوشك نظام بشار أن يتهاوى ولم تتمكن إيران بمليشياتها وقوات حزبها في لبنان من تحقيق تقدم يذكر، بل أوقع بهم الثوار خسائر كثيرة، وحققوا عليهم انتصارات كبيرة، كما حصل في إدلب وجسر الشغور، وقد علقت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» على هذه الانتصارات بالقول إن "سيطرة النظام السوري تراجعت إلى أقل من 25% على جغرافية سوريا" (الخليج الجديد 26/4/2015)، ليخرج بشار بعد ذلك ويتحدث عن سوريا المفيدة ليبرر تراجع قوات نظامه وانحسارها.
ولم يكن بعد هذه الهزائم المتتالية لعميل أمريكا بشار وخادمتها إيران وذنبها في لبنان، إلا أن تستدعي أمريكا روسيا لعل الدب الأحمق يفعل ما لم يستطعه الأتباع والخدام، وظنت روسيا بوتين أن عملها في سوريا لن يحتاج أكثر من ثلاثة إلى أربعة شهور، فتقضي على الثوار وتنهي الثورة، وتفوز بالرضا الأمريكي، فقد قال أليكسي بوشكوف رئيس لجنة الشئون الدولية في مجلس الدوما الروسي في حديث مع قناة (أوروبا 1)، أوردت مقتطفات منه قناة (روسيا اليوم) تعليقا على العملية العسكرية الروسية: "يتحدثون في موسكو عن ثلاثة أو أربعة أشهر من العمليات" (صدى البلد 2/10/2015)، وقد انقضت الشهور الأربعة والخمسة وبدأت ثورة الشام عامها السادس، ولم تستطع روسيا أن تقضي على الثورة أو تضعفها على الرغم من الأذى الذي ألحقه الروس بأهل الشام، فكما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، ومن ثم جاء انسحابها الجزئي، وهو لم يخرج عن سياق التفاهم مع أمريكا، وذلك لتنشيط المفاوضات في جنيف ما يبرر للمعارضة الاستمرار في المفاوضات، ولذلك كال عدد من المعارضة المديح لروسيا رغم كل مجازر روسيا السابقة!!
وكانت أمريكا قد ضغطت من أجل البدء بعملية المفاوضات، وقد استعملت التهديد والوعيد، وصنعت من خلال عملائها في السعودية وتركيا ما سمي بالهيئة العليا للمفاوضات، وساقتهم سوقا إلى جنيف، لتبدأ عام الثورة السادس بهدنة أمن للنظام، لتتمكن من طبخ العملية السياسية بهدوء، وكما هو معهود من أمريكا منذ بداية ثورة الشام أنها تصنع هيئات وتمثيليات ومجالس ثم ما تلبث أن تلقي بها جميعا بعد أن تعجز من خلالها عن قيادة الثورة أو اختراقها، فمن المجلس الوطني إلى الائتلاف السوري ثم الهيئة العليا للمفاوضات، مشاريع قيادات زائفة، ما تلبث أن تُستهلك وتتكشف وتبوء بالإثم والخزي والعار.
ومع عظم ما لاقاه أهل الشام وما مرت به ثورة الشام من تآمر الشرق والغرب والعملاء والوكلاء والأذناب، إلا أن الدلائل قوية على أن ثورة الشام ما زالت عصية على مشاريع أمريكا لإعادة توجيه الثورة وإدارتها لتتمكن من القضاء على روح الثورة ونفَسها الذي امتازت به، وهي كونها ثورة شعب بحق يرنو نحو التغيير الجذري، وهذه الروح وهذا النفَس هو الذي يمد الثوار بالقوة، وهو الذي يطيح بكل محاولة للتنازل أو الانحراف، فعلى صعيد الحركات والتجمعات، نرى أن كثيرا منها يستجيب بين الحين والآخر لضغوط التنازل والتأقلم، فمن كانوا يرفعون شعار تحكيم الشريعة وإقامة دولة إسلامية، انتقلوا تحت الضغوط والتمويه والتضليل إلى الحديث عن الاختيار الشعبي، وصندوق الانتخاب، والدولة الدعوية، والتدرج في التغيير، والحديث عن التركيز على إسقاط النظام أولا والتخلص من بشار لكسب التعاطف الدولي والإقليمي ثم بعد ذلك الحديث عن شكل الدولة، وكل هذه الأطروحات لم تتمكن حتى الآن من كسر أو اختراق حاجز الحاجة إلى التغيير الجذري، لأنها ما زالت تعرض على أنها مناورات سياسية، وليست مطالب حقيقية، حيث هناك خطابان لهذه الحركات والتجمعات: خطاب للثورة والثوار أن المطلب الحقيقي هو التغيير الجذري، وخطاب للخارج. والخطاب الذي يلقونه في الخارج لا يزال لا يلقى قبولا حتى داخل تلك الحركات التي تعاني من انفصام في شخصيتها بين خطاب الداخل وخطاب الخارج.
وهذا كله بسبب أن ثورة الشام لم تكن ثورة حركات أو جماعات إذ لو كانت كذلك لأمكن لتلك الجماعات التي تحقق على أيديها انتصارات كثيرة، وحصلت على نفوذ كبير وتأييد عارم - أن تقود الثورة إلى حيث تريد، وتنحرف بها إلى حيث تنحرف هي، وهذا كله لم يحدث على الرغم من وجود القابلية لدى تلك الحركات والجماعات للمساومة والتنازل، بل على الرغم من تجاوز القابلية إلى الوقوع في التنازل فعلا لكونها ليست حركات مبدئية، ومع ذلك لم تنحرف ثورة الشام مع انحرافها ولم تترك مطلبها الأصلي والأساسي بالتغيير الجذري، وبقيت صيحات الثلة المخلصة النقية كفيلة على ضعفها في إبقاء هذا المطلب وتلك الروح متقدة وملتهبة.
وعلى الرغم من تماهي حركات ثورية مع المطلب الحقيقي للثورة ومناداتها بالحل الجذري على أساس الإسلام، إلا أن كونها لا تحمل الإسلام مشروعا واضحا مبلورا، ولا تمتلك التصور الحقيقي له مطبقا، جعلها لا تصلح لأن تقود ثورة الشام إلى حيث إرادتها الحقيقية، وهذه الحالة من التضارب والتشتت أوجدت فراغا في قيادة ثورة الشام كحركة جماعية إلى طريق الخلاص، فمن الواضح أن أهل الشام يسعون للخلاص مما هم فيه بالإسلام وحده فقط، لذلك لا يمكن أن يُملأ هذا الفراغ إلا بحزب مبدئي يقوم على أساس الإسلام ويمتلك التصور الحقيقي للإسلام مطبقا في واقع الحياة، ويمتلك مشروعا واضحا يكون قادرا هو على تطبيقه في كيان تنفيذي حقيقي، وليس كيانا موهوما، وهذه الصفات لا توجد في غير حزب التحرير، الحزب المبدئي الذي يمتلك الرؤية الواضحة والمشروع الحقيقي العملي لدولة الخلافة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع