هناك ثلاث حقائق أريد أن ألفت النظر إليها لخطورتها ولأنها متعلقة بهذا الموضوع، فالحقيقة الأولى أن الغزاة والمحتلين لا ينالون منا نيلا إلا إذا وجدوا لهم عملاء ومن يواليهم ويتحالف معهم، فهؤلاء الذين يوالون الكفار قد حذر الله منهم في آيات كثيرة حيث حرم موالاة الكفار، وأن خطرهم أشد من خطر الكفار أنفسهم حيث إن أكثرهم منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ومرضى نفوس في قلوبهم شك في الإسلام وعدم ثقة به، ومنهم المرجفون الذين يروجون للكفار أكاذيبهم وأقاويلهم. والحقيقة الثانية أن أخطر شيء على وحدة الأمة ونهضتها هي النعرات العصبية من قومية ووطنية وطائفية، وقد أثارها الغزاة المستعمرون لهدم الدولة الإسلامية وتقسيم رقعتها للسيطرة عليها فوجدوا العملاء الذين ينفذون لهم خططهم فحققوا ما أرادوا. والحقيقة الثالثة أن الذين يتبنون العلمانية والديمقراطية هم عملاء متطوعون للغزاة المستعمرين حيث يعتبرونهم إخوانهم وأصدقاءهم وحلفاءهم بل أسيادهم، فهم موالون للكافرين.
فلم تتمكن أمريكا من اختراق الثورة الإسلامية المباركة في الشام إلا من بعد أن عملت على هذه الخطوط الثلاثة ومن ثم محاولة احتوائها والقضاء عليها بالإضافة إلى ألاعيبها السياسية. ولذلك قال رئيسها أوباما يوم 8/8/2014 لصحيفة نيويورك تايمز: "لن نسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق، لكن لا يمكننا فعل ذلك إلا إذا علمنا أن لدينا شركاء على الأرض قادرين على ملء الفراغ".
والآن تستخدم أمريكا عملاءها من دعاة القومية والعلمانية والديمقراطية مثل حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية التابعة له وقوات سوريا الديمقراطية ليهددوا بتقسيم سوريا بإعلانهم فدرالية وذلك لتنفيذ حلها السياسي في سوريا. فقد أعلنت هذه الفصائل الكردية يوم 17/3/2016 إقامة نظام فدرالي في المناطق التي تسيطر عليها. وهذه الفصائل عميلة لأمريكا حيث وصفها وزير دفاعها أشتون كارتر عقب هذا الإعلان بقوله: "أظهروا أنهم شركاء ممتازون لنا على الأرض من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، نحن ممتنون لهم وسنواصل هذه الشراكة مع الإقرار بتعقيدات دورهم الإقليمي". (فرانس برس 17/3/2016) أي أن مثل هذه الفصائل أداة رخيصة بيد أمريكا تنفذ لها ما تشاء، ولكن مكافأتها من قبل أمريكا بإقامة نظام حكم لها ليس واردا الآن وبالإضافة إلى ذلك فإنه يواجه بتعقيدات المنطقة، فليس من السهل تنفيذ ذلك.
وقد أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر يوم 16/3/2016 (رويترز): "لن نعترف بأي نوع لمناطق حكم ذاتي أو شبه مستقلة في سوريا" وعندما سئل عما إذا كانت أمريكا ستقبل نظاما اتحاديا في سوريا إذا كان اختيار الشعب السوري نفسه فقال: "نعم". وذلك تعقيبا على ما أدلى به دبلوماسيون من تصريحات تشير إلى: "أن القوى الكبرى المقربة من المحادثات تناقش احتمال أن يكون هناك تقسيم اتحادي للبلد الذي تمزقه الحرب بما يحافظ على وحدته كدولة واحدة مع إعطاء حكم ذاتي واسع للأقاليم". وكانت تلك الفصائل الكردية التابعة لأمريكا تستعد لإعلان ثلاث مناطق خاضعة لها منطقة حكم ذاتي.
فهذه الفصائل الكردية عميلة لأمريكا تأتمر بأمر أمريكا، فلا يمكن التصور بأن تتصرف أي تصرف دون إشارة منها، فإذن كيف تعلن هذه الفصائل حكما ذاتيا ومن ثم تقول أمريكا لن نعترف بذلك؟! فيكون في الأمر لعبة ما، وقد قالت ذلك قبل أن تعلن هذه الفصائل إقامة حكم ذاتي! فمعنى ذلك أن أمريكا تستخدم موضوع التقسيم لتهديد أهل سوريا وتخويفهم به للقبول بالحل السياسي، ويؤكد ذلك تصريح وزير خارجيتها كيري: "ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحدة إذا انتظرنا فترة طويلة" (رويترز 23/2/2016) فهو يخاطب أهل سوريا ويهددهم ويقول لهم إذا لم تقبلوا بالحل الذي نفرضه عليكم فإننا سنقسم سوريا، وها هم عملاؤها من الأكراد ينفذون لها ذلك حتى يخضع المفاوضون في المعارضة لما تمليه عليهم أمريكا، وقد رفضت أن يأتوا بشروطهم فهي التي تملي عليهم الشروط.
وقد تكلمت روسيا عن الفدرالية في سوريا فصرح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف قائلا: "إن موسكو تأمل بأن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فدرالية وهو المطلب الذي يطالب به الأكراد" (قناة الحدث 29/2/2016) وهذا لا يأتي من فراغ، بل يعني أن أمريكا وروسيا تكلمتا في الموضوع لتستخدما ذلك كأسلوب ووسيلة ضغط. وكذلك تصريحات المسؤولين في تركيا بأن روسيا تمهد لإقامة دولة علوية، كل ذلك للضغط على المفاوضين من المعارضة لإقرار النظام السياسي العلماني الذي ستفرضه أمريكا. ومن ثم يأتي نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف ويعلن يوم 17/3/2016 (روسيا اليوم): "أنه لا يمكن لأكراد سوريا إقامة نظام حكم فيدرالي في سوريا بشكل أحادي".وكذلك تبعه دميتري بيسكوف الناطق باسم الرئيس الروسي بترداد القول نفسه ولكنه أضاف: "يجب اتخاذ القرارات بهذا الشأن في إطار عملية شاملة تشارك فيها كافة المجموعات الطائفية والإثنية التي تسكن في أراضي سوريا.. وذلك بعد إعداد مشروع دستور جديد للبلاد".
معنى ذلك أن أمريكا وروسيا متفقتان على التهديد بإقامة الفدرالية في سوريا وعندما يعلن حلفاؤهما من الفصائل الكردية الفدرالية تقومان وتعلنان رفضهما لذلك، ومن ثم تقولان إن ذلك اختيار الشعب السوري، أي أن ذلك ممكن إذا رضي الشعب السوري بذلك! وهما تدركان أن أهل سوريا لن يقبلوا بذلك، ولذلك تؤجلان الحديث فيه. فتريد أمريكا ومعها روسيا أن تضغط حتى يتم إقرار وقف الثورة ضد النظام العلماني بتثبيت وقف إطلاق النار ووقف القتال، ومن ثم جعل الممثلين عن فصائل الثوار يقبلون بالمفاوضات حسب مقررات جنيف وفينّا وقرار مجلس الأمن 2254. وإذا نجحت في ذلك يأتي دور وضع الدستور العلماني، وسوف تستخدم التهديد نفسه واستغلال الفصائل الكردية وما أعلنته حتى تتمكن من إقرار دستور تفصله حسب مقياسها لتضمن بقاء نفوذها في البلد، وعندئذ يمكن أن تناقش موضوع إقامة فدرالية أو نظام كانتونات أو محاصصة طائفية لتحافظ على النصيريين العلويين وعلى وجودهم في الحكم وتحول دون الانتقام منهم وكذلك لتستغل الأكراد حتى تبقي هيمنتها على البلاد. وقد صرح المسؤولون الأمريكان أكثر من مرة وعلى رأسهم رئيسهم أوباما بوجوب المحافظة على الأقليات وحقوقها في سوريا وخاصة العلويين ومنع الانتقام منهم على ما ارتكبوه في حق المسلمين من جرائم بقيادة رئيسهم بشار أسد عميل أمريكا وبإيعاز منها.
وقد أكدت تركيا وإيران أثناء لقاء وزير خارجيتهما يوم 19/3/2016 في أنقرة رفضهما للفدرالية أو التقسيم في سوريا. وهما الدولتان اللتان تدوران في فلك أمريكا، فمعنى ذلك أن أمريكا لم تبتّ حاليا في ذلك، ولذلك فإن من يدور في فلكها يرفض ذلك، وهم يتخوفون منه، لأن العدوى ستنتقل إليهما حيث يطالب الأكراد في تركيا بإقامة حكم ذاتي أو فدرالية فيها، وقد حاول حزب العمال الكردستاني أن يوجِد له امتداداً في إيران ليغذي الدعوات الانفصالية لدى الأكراد القاطنين فيها.
ولهذا نستطيع أن نقول إن الحديث عن التقسيم وما شابه ذلك يُستعمل حاليا للضغط على المفاوضين من المعارضة لإقرار النظام السياسي الذي ستفرضه أمريكا، ولكن أهل سوريا يرفضون التقسيم كما يرفضون النظام العلماني أو الدولة المدنية، وقد انطلقوا في ثورتهم ضد ذلك، فهل يأتون به مرة أخرى؟! فالذي يتولى ويقبل به فسوف يستبدله الله ويأتي بخير منه ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، وقد نادوا بالخلافة وحملوا رايتها وضحوا من أجلها! فكل ذلك جولات من النزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان من دون نفاق، حتى يأتي الله بأمره، فيعلي كلمته على يد رجال مؤمنين صادقين لم يبدلوا ولم يغيروا، فيستخلفهم في الأرض ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، فيعزهم ويذل الكافرين والمنافقين والذين بدلوا وغيروا، إنه على كل شيء قدير.
رأيك في الموضوع