بعد أن وقعت أمريكا و11 دولة في منطقة المحيط الهادي اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي في الرابع من شهر شباط، عقدت قمة جديدة في كاليفورنيا جمعت الولايات المتحدة مع مجموعة آسيان المكونة من 10 دول. وتأتي هذه القمة كسابقتها تنفيذا لاستراتيجية أمريكا المتعلقة في منطقة المحيط الهادي وبالصين. وقد صدر عن القمة بيان مكون من 17 مادة، لعل أهمها ما ورد في البند الرابع الذي نص على احترام القانون وحقوق الإنسان والحريات، في إشارة إلى الصين، وما جاء في البند الخامس من اعتبار دول آسيان مركزا أساسيا في تطور العلاقات ما بين دول الأطلسي ودول المحيط الهادي. وفي هذا إشارة إلى تحجيم دور الصين في هذا الإقليم المهم مع التركيز على عدم استعمال القوة في حل مشاكل الإقليم، خاصة فيما يتعلق بأمن الإبحار والطيران في الإقليم. ولم تتوان أمريكا عن زج قضية الإرهاب في هذه القمة باعتبارها استراتيجية لها لتحقيق هيمنتها خاصة في منطقة العالم الإسلامي.
وكانت مجموعة آسيان قد أنشئت عام 1967 بمبادرة من ماليزيا وإندونيسيا ثم تبعتها دول أخرى كالفلبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي وكمبوديا ولاوس وبورما وفيتنام. ولا يخفى أن إنشاء هذه المجموعة منذ البداية كان من أجل الحد من نفوذ الصين الاشتراكية في منطقة جنوب شرق آسيا. وكانت بريطانيا وراء إنشاء المجموعة، ثم عملت أمريكا على ضم دول تابعة لها كالفلبين وكمبوديا وفيتنام.
ومن المعروف أن أمريكا واجهت تحدياً كبيراً من قبل الصين في منطقة المحيط الهادي، حيث سعت الصين دائما لبسط نفوذها على منطقة جنوب شرق آسيا وبحر الصين والمحيط الهادي. وعملت أمريكا من خلال الحرب الكورية وحرب فيتنام على الحد من نفوذ الصين وتحجيم دورها. وتمكنت عام 1974 من عقد اتفاق تاريخي مع الصين بعد زيارة نيكسون وكيسنجر للصين. حيث تم وقف حرب فيتنام وسحبت أمريكا قواتها من المنطقة مقابل تعهد الصين بحصر مجالها الحيوي في محيطها الإقليمي. ومنذ ذلك الوقت توطدت العلاقات الأمريكية الصينية حتى غدت الصين أكبر شريك تجاري لأمريكا، ونقلت أمريكا كثيرا من صناعاتها ورؤوس أموالها إلى الصين، وأصبحت الصين تملك أكبر كمية من الدولارات خارج أمريكا بما يزيد على 3 ترليون دولار. وقد حصلت الصين على صفة الشريك المفضل في التجارة الخارجية مع أمريكا. وكان كل ذلك تحقيقا لسياسة الاحتواء المزدوج التي رسمها كيسنجر ونفذها نيكسون تجاه الصين. فأمريكا تعتبر الصين عدوا ولكنها تقيم معها علاقات حسنة. فمن جهة لا تريد للصين أن تتجاوز حدودها الإقليمية بل تريد أن تحجم من نفوذها الإقليمي، ومن جهة أخرى تقيم معها علاقات استراتيجية من الناحية الاقتصادية لتربط اقتصاد الصين ربطا عضويا باقتصاد أمريكا.
أما من جهة الحد من نفوذ الصين في منطقة المحيط الهادي فتتبع أمريكا مع دول منطقة المحيط الهادي سياسة الفزاعة من نفوذ الصين. فهي تفتعل أحداثاً مع الصين كحادثة المدمرة وحاملة الصواريخ الأمريكية لاسين التي اقتربت من جزر صينية في تشرين الأول 2015. ومن قبلها إجبار الصين لطائرة تجسس أمريكية على الهبوط في الصين وتفكيكها. فمثل هذه الأعمال تثير الرعب في الدول المجاورة، وتجعلها ترتمي في أحضان أمريكا بحثا عن الحماية والأمن. وتستغل أمريكا سخونة الوضع على الحدود بين الكوريتين للغاية نفسها. ومن هنا نجحت أمريكا في إيجاد معاهدات مع دول المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، ما جعلها تحد من نفوذ الصين في هذه المنطقة. علما بأن أمريكا كانت قد أقرت للصين مجالا حيويا في هذه المنطقة، إلا أن طبيعة السياسة الأمريكية تقوم على الغش والخداع وعدم المصداقية.
ومن الناحية الاقتصادية شجعت أمريكا الصين على تطوير اقتصدها الاشتراكي لتسمح بدخول رأس المال الأمريكي والشركات متعددة الجنسيات. ونقلت أمريكا كثيرا من صناعاتها أو مكملات صناعاتها إلى الصين. ولا يخفى أن غالبية صادرات هذه الشركات يذهب لأمريكا. فقد ازدادت صادرات الصين لأمريكا من 3 مليار دولار سنة 1985 إلى 582 مليار سنة 2015، كما هو واضح في الرسم البياني. وتملك الصين حوالي 20% من سندات الحكومة الأمريكية أي ما يعادل 1.2 ترليون دولار، ما يجعل الصين الأكثر ارتباطا بالاقتصاد الأمريكي.
وعليه فإن ما تقوم به أمريكا من نشاطات في محيط الصين الحيوي ما هو إلا جزء من استراتيجية أمريكية طويلة الأمد تعمل على احتواء الصين ومنعها من استخدام مجالها الحيوي من جهة، وإحاطتها بمناطق نفوذ أمريكية كما هو الحال في مجموعة آسيان ومجموعة الشراكة عبر المحيط الهادي.
وقد تبين بما لا يقبل الشك أن العلاقة بين دول مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا إنما تقوم على أساس التنافس الاستعماري الذي تهدف من ورائه كل دولة في نهب ثروات الشعوب وإفقارها وإذلالها، ولا سبيل للخروج من ذلك إلا بإيجاد دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تقوم على أساس الإسلام الذي لا يعرف الاستعمار بل هو ينكره ويحاربه وهو رسالة عالمية تهدف إلى إخراج الناس من عبودية الدول الاستعمارية والخضوع لسيطرتها إلى عدل الإسلام ورحمته الذي يقوم على عقيدة حقيقية ذات قيم ثابتة تستند إلى وحي السماء لا إلى مصالح الدنيا المتغيرة. ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾.
بقلم: الدكتور محمد ملكاوي
رأيك في الموضوع