لم تتوقف وتيرة التصعيد بين روسيا وتركيا منذ إسقاط تركيا لطائرة سوخوي الروسية وذلك بعد أكثر من شهرين على إسقاطها، بل إنّ الأمور ما زالت تتعقّد وتزداد تفاقماً بين البلدين، فالاتهامات المتبادلة بينهما لا تتوقف، وحالة الاحتقان، وارتفاع حدّة التوتر، والحرب الكلامية، أصبحت من مفردات اللغة السياسية اليومية السائدة في وسائل إعلام الدولتين ضد بعضهما البعض، في حين لم تقم أيٌّ من الدول الكبرى بأية وساطة جادّة لإنهاء الأزمة بينهما، وهو ما أفضى إلى المزيد من التصعيد - الذي إن استمرّ على نفس الوتيرة - فإنّه قد يتسبب في حدوث اشتباك عسكري بين قوات البلدين على الحدود السورية التركية، قد تكون له مضاعفات غير محسوبة العواقب، خاصّة بعد نشر روسيا لمنظومة صواريخ (اس 400) التي تُغَطي كافة الأجواء السورية، وجزءاً من الأجواء التركية، والتي بمقدورها إسقاط أي طائرة تركية تُحلّق في تلك الأجواء.
هذا فضلاً عن امتلاء السماء السورية بالقاذفات الروسية المتطورة، بالإضافة إلى وجود حشد كثيف من البوارج والسفن الحربية الروسية المختلفة الأشكال والأنواع قبالة السواحل السورية والتركية، وهو ما قد يزيد من احتمالات وقوع الاشتباك العسكري بين الطرفين، وخروج الوضع عن السيطرة.
وحالة التصعيد بين الدولتين لم تقتصر على حدود الاتهامات اللفظية، واتهام روسيا لتركيا بدعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وتسهيل تهريب النفط الذي يقوم به تنظيم الدولة والاستفادة من بيعه، وإثباتات تركيا بأن روسيا تقصف المعارضة المعتدلة، ومشاركة نظام الأسد في قصف المدنيين، وقتلهم وتهجيرهم.
كما لم تنتهِ هذه الحالة عند حدود العقوبات التي شملت قطاعات الطاقة والتجارة والسياحة، بل تعدّتها لتصل إلى استهداف أهل سوريا التركمان، وقصفهم، وتشريد عشرات الآلاف منهم من قرى جبل التركمان على الحدود مع تركيا.
وإنّ استخدام الروس في هذه الأيام لسياسة الأرض المحروقة في تلك المنطقة، أدّى إلى استفزاز الجيش التركي الذي بات يقف وقوف المتفرّج على ذبح التركمان، والذين هم من المحسوبين على الأتراك، كما أدّى إلى إحراج الدولة التركية التي تقف اليوم عاجزةً تماماً عن القيام بأي عمل عسكري للدفاع عنهم.
إنّ حادثة إسقاط تركيا للطائرة الروسية قد أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقات الروسية التركية يتعسّر جسره، وفتحت جروحاً بليغة من الماضي يصعب دملها، وأحيت ذكريات مريرة نابعة عن اثنتي عشرة حرباً خاضتها روسيا ضد الدولة العثمانية، خلّفت على إثرها حالةً مزمنةً من العداء التاريخي بين الدولتين لم يكن نسيانها بالأمر السهل، وجاءت هذه الحادثة لتستحضر التاريخ، ولتكون بمثابة وسيلة إيقاظ لتلك العداوة، ولِتُعيدَ الحياة إليها.
لقد تأثّرت هيبة روسيا كثيراً بسبب هذه الحادثة، وعبّر عنها بوتين بقوله إنّها طعنة غادرة من الخلف لم يكن يتوقّعها من الأتراك، فصبّ جام غضبه على تركيا، وأزبد وعربد، وبيّت شرّاً، وأظهر تعطّشه للانتقام، وسعى بكل السبل للنيل من تركيا، وإلحاق أشد الأذى بها، وذكّرها بانتصارات روسيا عليها، وهزائم تركيا المتتالية أمام الروس حسب ادعائه.
ولشدة غيظه وتأثّره بالحادثة لمز بوتين في قناة الأمريكان، ولمّح إلى أنّهم ربّما يكونون هم وراء تحريض الأتراك على إسقاط الطائرة فقال: "أبلغنا شركاءنا الأمريكيين بموعد ومكان عمل الطائرات الروسية، وبعد ذلك بالضبط أسقطت القوات الجوية التركية الطائرة الحربية الروسية"، وتساءل نادماً: "لماذا نقلنا هذه المعلومات للأمريكيين؟!"، وتجاهلت أمريكا هذه التصريحات، ولم تُعلّق عليها.
ويبدو أن الروس يتحيّنون الفرص، وسيحاولون الثأر من تركيا، وسيسعون لإسقاط طائرة تركية واحدة على الأقل، لتكون النتيجة واحدة بواحدة، وذلك لاستعادة الهيبة، ولإشفاء كبريائهم المثلوم، ولإثبات عظمة روسيا، والرد على الإهانة التي تلقتها من الأتراك، خاصّة وأنّهم لم يعتذروا بشكل صريح، مع أنّهم اعترفوا بأنّهم لم يكونوا قاصدين إسقاط الطائرة، كما عبّر عن ذلك نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش عندما قال: "إنّ إسقاط الطائرة الروسية لم يكن عن قصد"، لكنّ الروس لم يكفهم هذا الكلام، ويريدون اعتذاراً صريحاً.
أمّا بالنسبة للموقف الأمريكي من هذه الحادثة، فهو وإن كان موقفاً بارداً ويظهر فيه اللامبالاة، إلاّ أنّه لن يسمح بتطور الأحداث بين الدولتين وبلوغها حالة الحرب، لأنّ أمريكا لا تُريد إلحاق الأذى بروسيا، فهي تستفيد من الروس كثيراً في سوريا من خلال الحفاظ على نظام بشّار، ومن خلال منع تركيا التوّاقة لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية على حدودها، ومن خلال إجهاض الثورة التي انتشرت فيها الموجة الإسلامية التي عجزت أدواتها المحلية عن إيقاف انتشارها، ومن جهةٍ ثانية فهي لا تُريد من روسيا أن تُضعف من قوة تركيا لأنّها عضو في حلف الناتو منذ العام 1952، ولأنّ النظام فيها تابع مخلص لها.
لكن مع ذلك فمن الممكن أن تسمح أمريكا لروسيا بالانتقام الجزئي من تُركيا بحيث لا يؤثّر ذلك الانتقام على سقوط حزب العدالة من الحكم، ولا يؤدي إلى حرب شاملة تدخل فيها أطراف عدة قد تؤدي إلى إخراج الأمور عن السيطرة.
أمّا مواقف الأوروبيين، فواضح فيها الدّس وتوسيع رقعة الخلاف بين روسيا وتركيا، وإحراج الأمريكيين مع الروس، ومحاولة الإيقاع بينهما، فقد أصدرت بريطانيا تقريرها السنوي الاستراتيجي في نهاية العام 2015 جاء فيه أنّ: "روسيا تُشكّل أكبر تهديد للسلام العالمي بعد تنظيم الدولة الإسلامية"، فبريطانيا تقوم بصب الزيت على النار من خلال مواقفها، ومن خلال تصريحات مسؤوليها المتعلقة بروسيا، فقد قال وزير خارجيتها فيليب هاموند: "إنّ روسيا تعمل على إقامة دولة علوية في الساحل السوري"، وأمّا فرنسا والتي كانت دائماً ما تعرض وساطاتها لحل الخلافات بين روسيا والدول الغربية، كما فعلت سابقاً بين روسيا والغرب بخصوص قضايا جورجيا وأوكرانيا، فقد ظلّت هذه المرّة صامتة، ولم تُحرّك ساكناً.
ولكن هذه المواقف الأوروبية السلبية تجاه روسيا وأمريكا لم تجد آذاناً صاغية لدى الروس والأمريكان، فروسيا وبالرغم من جعجعتها الصوتية، ومن خلال قعقعة السلاح التي أحدثتها ضد تركيا إلاّ أنّها في الواقع لا تجرؤ على خوض حربٍ شاملة معها، لأنّها تعلم أنّ أمريكا تُساند تركيا، ومجرد علمها بذلك يجعلها تدوس على كرامتها، وتدوس على فراملها، رهبة من أمريكا.
فضلاً عن أنّ لروسيا مصالح اقتصادية هائلة في تركيا، ولا تُريد أن تُجازف بخسارتها الفادحة إن هي خاضت معها حرباً، وقطعت علاقاتها معها، فروسيا من ناحية اقتصادية تُعتبر الشريك الثاني لتركيا بعد الاتحاد الأوروبي، وتركيا من الناحية الاقتصادية تُعتبر الشريك الثاني لروسيا بعد ألمانيا، وتركيا تستورد 60 % من حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا بأسعار عالية تُدرّ على روسيا مداخيل كبيرة، فلا تُريد روسيا خسارة زبائنها المهمين في شراء الغاز منها، ويذهبوا إلى منافسيها مثل قطر، فالأزمة بين البلدين تبقى محصورة بحدود معينة، ولا تتجاوز حد المناوشات الكلامية، أو الأعمال العسكرية المحدودة جداً.
رأيك في الموضوع