اختتم الرئيس الصيني شي جينبينغ يوم 24/10/2015 زيارة لبريطانيا استمرت 4 أيام، حيث صرح قائلا: "إن الصين كدولة كبرى مسؤولة مستعدة للإسهام أكثر في السلام والتنمية العالميين". وأعلن البلدان في البيان الختامي "عن بناء شراكة استراتيجية شاملة عالمية للقرن الواحد والعشرين" وقال البيان "إن هذه الزيارة التي يقوم بها الرئيس شي لبريطانيا هي الأولى منذ عقد تفتح عصرا ذهبيا في العلاقات الصينية البريطانية التي تتسم بالاستمرارية والشمولية والتعاون المربح للجانبين". وأضاف "يعترف الجانبان بالأهمية العالمية والاستراتيجية لعلاقات أقوى بين البلدين في تعزيز السلام والاستقرار والازدهار على المستوى العالمي كما تعهد الجانبان بتعزيز التجارة والاستثمار على المستوى الثنائي وتقوية السياسة اعتمادا على المساواة والاحترام المتبادل". فيرى من تصريح الرئيس الصيني ومن البيان المشترك أن لهذه الزيارة جانبا سياسيا، فالصين تسعى لأن تكون دولة كبرى على المستوى العالمي، والبلدان يريدان تعزيز مواقعهما في الموقف الدولي حيث تهيمن عليه أمريكا، فيريدان أن يعملا معا تحت مسمى تعزيز السلام والازدهار العالمي، وهو الشعار الذي تتخذه الدول الكبرى ذريعة للتدخل في سياسات الدول الأخرى وللعب دور عالمي في حل المشاكل لإيجاد التأثير في الموقف الدولي. ويعني ذلك الوقوف في وجه أمريكا أو إجبارها على أن تشاركهما في بحث القضايا الدولية حتى تعززا دورهما الدولي.
ووقع البلدان على "صفقات تجارية واستثمارية بلغت قيمتها الإجمالية نحو 30 مليار جنيه إسترليني" حسبما ذكر رئيس الوزراء البريطاني كاميرون، وذكر: "أن بريطانيا هي الاقتصاد الأكثر انفتاحا داخل الاتحاد الأوروبي والأكثر ترحيبا بالنسبة إلى الصين.. وأن التبادل التجاري الثنائي بلغ مستوى قياسيا". فمن هنا يفهم أن لهذه الزيارة جانبا اقتصاديا يهم بريطانيا كثيرا، حيث ما زالت تعاني من تداعيات الأزمة المالية العالمية. فتريد أن تنقذ اقتصادها وتعززه بالتعاون مع الصين البلد الذي يعتبر ثاني اقتصاد عالمي.
وقد ورد في البيان اتفاقهما على أن هذه الشراكة الاستراتيجية "تشمل العمل على جعل اليوان الصيني عملة عالمية وتحرير التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي" وقد أعلنت بريطانيا قبل صدور البيان أنها "تدعم ضم اليوان إلى سندات حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي" (المقيّمة بسلة من العملات الرئيسية التي تتداولها الحكومات فيما بينها ومع الصندوق) فهذا من أهم ما يهم الصين أن تجعل عملتها دولية، فتريد أن تكسب دعم بريطانيا التي هي عضو مالي دولي لكونها من مجموعة السبع الأغنى عالميا والتي تعمل على التحكم في اقتصاد العالم، وعملتها الجنيه الإسترليني عملة دولية معتبرة لدى صندوق النقد الدولي وتقيّم بها باقي عملات العالم وتتداولها الدول بينها وبين الصندوق.
نقلت صحيفة غلوبال الصينية عن جانغ جيانبينغ الباحث في "أكاديمية الأبحاث في الاقتصاد الكلي" قوله "إن الدعم البريطاني مسألة حاسمة في مسعى بكين لتدويل عملتها كما أقنعت المشاركة البريطانية في البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية دولا أخرى للمشاركة في البنك، فمن شأن اقتصادات أخرى وخاصة اقتصادات الدول المتطورة أن تلحق ببريطانيا في مسألة ضم اليوان إلى حقوق السحب الخاصة". فمع عظم الصين اقتصاديا ومساحة وسكانا إلا أنها لم تستطع أن تجعل عملتها عالمية كالجنيه الإسترليني لبريطانيا الصغيرة جدا مساحة وسكانا بالنسبة للصين. حيث تتحكم الدول الغربية في الاقتصاد العالمي بسبب هيمنتها السياسية والفكرية بسبب سيطرة المبدأ الرأسمالي على العالم، فأمسكت هذه الدول وخاصة أمريكا بزمام الأمور الدولية وتحكمت في المؤسسات العالمية المالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وفرضت سياستها وفكرها ونظامها الاقتصادي وعملاتها على العالم، ولم تستطع الدول الشيوعية الكبرى كالاتحاد السوفياتي سابقا أن تهزمها، بل تخلى عن مبدئيته وانهار وأصبحت وريثته روسيا تلهث وراء الغرب ليمنحها مكانة في صفوفه ولم تحصّلها، ولم تستطع أن تجعل عملتها الروبل عملة عالمية. وكذلك الصين التي احتفظت بالمبدأ الشيوعي اسما وتخلت عنه فعلا صارت تلهث وراء الدول الغربية لتمنحها هذه المكانة، فلم تستطع أن تحصّلها لدى أمريكا زعيمة الدول الرأسمالية فاتجهت نحو دول أخرى كبريطانيا لعلها تساعدها فيما تصبو إليه.
ويهم بريطانيا أن تتقوى في وجه أمريكا التي تتحكم في الدول الغربية أيضا، فتريد أن تضعف هذا التحكم أو تسقطه أو تعزز موقفها لعلها تعود إلى تبوء درجة عالمية أعلى فتعيد أمجاد بريطانيا العظمى المفقودة، ومنها سقوط الجنيه الإسترليني كعملة عالمية أولى لصالح الدولار الأمريكي. ولهذا قال كاميرون "إن بريطانيا تدعم قيام الصين بدور أكبر في المؤسسات الدولية، وكذا إقامة البنك الآسيوي لاستثمارات البنية الأساسية وإصلاح صندوق النقد الدولي وتدويل العملة الصينية، وإنها عازمة على المساعدة في تعزيز العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي". فهذا الكلام واضح منه أن بريطانيا تريد أن تتقوى بالصين لتشكل معها جبهة في مواجهة الهيمنة الأمريكية، ولذلك دعمت الصين في مشروع البنك الأسيوي لتكون مؤسسة مالية تنافس صندوق النقد الدولي الذي تسيطر عليه أمريكا، حتى تجبر أمريكا على إعطاء الآخرين حقوقا تساويها حتى تحد من هيمنتها عليه تحت مسمى إصلاح صندوق النقد الدولي الذي ترفض أمريكا تغيير قوانينه ونظامه التي صاغتها في اتفاقية بريتون وودز عام 1944 وجعل الدولار عملته التي تقيم بها أسعار الذهب والنفط وتقيم بها عملات الدول لتنهب ثروات العالم بورقة خضراء لا تساوي الحبر الذي طبعت به.
وبجانب ذلك يظهر أن بريطانيا تريد أن تستعمل الصين لتعزيز وضعها داخل الاتحاد الأوروبي كونها تتشارك مع الصين في شراكة استراتيجية عالمية وتجلبها للاستثمار مع شركاتها الأوروبية، مثلما أعلنت عن "توقيع شركات صينية وفرنسية على اتفاقية للتعاون في بناء محطة لإنتاج الطاقة النووية في هينكلي بوينت جنوب غرب إنجلترا" والتي وصفها كاميرون بأنها "تاريخية" "ستقدم طاقة موثوقة ورخيصة لنحو 6 ملايين منزل وستوفر 25 ألف فرصة عمل". وأعلنت الصين وبريطانيا أنهما "ستعملان فورا على إعداد دراسة جدوى حول اتفاقية لتحرير التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي في آذار من العام الماضي بدراسة اتفاق للتجارة الحرة"، "ولكن أوروبا ما زالت منقسمة حول هذا الطرح. فرغم الدعم القوي لهذا الطرح من جانب رئيس الوزراء البريطاني كاميرون تعرب دول أوروبية كإيطاليا وإسبانيا عن قلقها من أن يؤدي اتفاق كهذا إلى هيمنة المنتجات الصينية على السوق الأوروبية، ويمكن للصين أن تبدأ المفاوضات مع دول محددة راغبة بعقد الاتفاق كألمانيا وبريطانيا والسويد وانتظار الفرصة لتوسيع الاتفاق ليشمل باقي دول الاتحاد". فبريطانيا تستغل شراكتها الاستراتيجية مع الصين وجلبها إلى أوروبا للتجارة والاستثمار لتلعب دورا مؤثرا في الاتحاد الأوروبي حيث أصبحت شبه مشلولة أو معزولة فيه وتديره ألمانيا وبجانبها فرنسا.
والخلاصة أن لكل من بريطانيا والصين أهدافاً مشتركة لتعزيز مواقفهما الدولية سياسيا واقتصاديا تجاه أمريكا، فبريطانيا تريد أن تستخدم الصين لضرب الهيمنة الأمريكية اقتصاديا وسياسيا كما تريد أن تستخدمها لتعزيز دورها في الاتحاد الأوروبي وأن تستخدمها لإنقاذ اقتصادها الذي ما زال يعاني من تداعيات الأزمة المالية، والصين تريد أن تستفيد من بريطانيا لجعل عملتها اليوان عالمية وأن تنال دعمها وهي تسعى لأن تكون دولة كبرى عالميا. ونحن المسلمين ندرس ونحلل علاقات الدول الكبرى مع بعضها والتي تشكل الموقف الدولي والذي من شأنه أن يؤثر على باقي دول العالم لكي نكون على بينة من أمرها لنتقي شرها ونعمل على توظيفها لصالح أمتنا التي تسعى لإقامة دولة عظمى متجسدة في دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، بل لتكون متفردة في الموقف الدولي تدير العالم بالحق والعدل وتنشر الخير في ربوعه وتهدي الناس لأرشد أمرهم، ونسأل الله أن يكون ذلك قريبا.
رأيك في الموضوع