ردا على المقال الذي نشرته جريدة الأخبار اللبنانية للكاتب ثابت العمور بعنوان («حزب التحرير» بنسخته الفلسطينية... ليس فلسطينياً، 11/6/2016)، نقول: الحمد لله أن حزب التحرير أحسن تشخيصه لواقع الأمة من أول يوم انطلق فيه، فحدد هدفه بأنه استئناف الحياة الإسلامية، أي إعادة تطبيق الشريعة التي قام الغرب المستعمر بتعطيلها، بعد أن تمكن من هدم دولة الخلافة على يد مصطفى كمال والخونة من العملاء العرب الذين وضعوا أيديهم بأيدي أعداء الأمة، فأطلقوا ما سمي بالثورة العربية الكبرى، فترتب عليها تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو التي يتباكى عليها الكاتب، إذ يندب أن "حزب التحرير بنسخته "الفلسطينية" ليس فلسطينيا".
ثم يخبط خبط عشواء ليشغب على دعوة الحزب ويضلل القراء فيزعم أن حزب التحرير لا شأن له بالجهاد، ولا يدرج تحرير فلسطين في برنامج عمله، بل يصر الحزب، بزعم الكاتب أو افترائه، على تعطيل الجهاد ويستشهد بعدم قيام الحزب بأي عملية ضد كيان يهود... ثم يتوج تضليله بأن الوصفة السحرية عند الحزب تقوم على أن الخلافة هي الدواء الشامل والحل لمشاكل الأمة دون تبيان آليات هذا الحل المزعوم.
واضح أن الكاتب ينطلق من نية مبيتة عنده لتشويه دعوة الحزب وسجله في مقارعة الاستعمار وعملائه من الحكام في طول بلاد المسلمين وعرضها؛ وواضح غيظ الكاتب من إقبال الأمة على دعوة الحزب. ومع ذلك فإننا نلقي الضوء على الوقائع والحقائق لتكشف زيف ادعاءاته وافتراءاته.
فنعم حدد الحزب قضيته الأولى بتطبيق الشريعة وهذا لا يتم إلا بإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، التي يعني قيامها تحرر الأمة من الهيمنة الاستعمارية الغربية، كما تعني عودة قوة الأمة عبر عودة وحدتها تحت إمام واحد يسهر على تطبيق أحكام الشرع وإقامة العدل فيما بينها، كما يسهر على ردع وقطع يد كل عدو طامع فيها وفي مقدساتها.
أما الزعم الذي انتشر كثيرا بأن "قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة" فهذه مقولة أريد منها صرف أذهان الناس عن تشخيص واقع الداء وحقيقة الدواء. فالكل يعلم جواب السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله القاطع والحاسم لرئيس الصهيونية العالمية هيرتزل حين رفض هجرة يهود إلى فلسطين وتمكينهم من استيطانها ولو كلفه ذلك حكمه كما حصل فعلا.
والكل يعلم أن من أعطى فلسطين ليهود هو المستعمر البريطاني الذي نصّب غلوب باشا قائدا للجيش الأردني، كما أقام ما يسمى جامعة الدول العربية لتحمي كيان يهود، ولتسخر الجيوش في قمع حركة الأمة للتخلص من الاستعمار، تحت شعار حماية السيادة الوطنية للكيانات الكرتونية التي فرضها الاستعمار الغربي.
وفي ظل هذه الوقائع فقد قام الغرب بالتحكم بالتنظيمات التي رفعت شعار تحرير فلسطين، والذي كان يعني قبل نكسة 1967 تحرير ما احتله يهود غربي الضفة فيما يعرف بفلسطين 48، قبل أن يتحول شعار منظمة التحرير إلى إقامة سلطة "مزعومة" على "أي شبر يتحرر"، وهذا ما حصل في ظل اتفاقية أوسلو المشؤومة، فبدل أن يعني يهود أنفسهم بعبء قمع المسلمين أصبحت سلطة أوسلو تتكفل بذلك بعد أن تسلحت بأشكال الدعم كافة من الجنرال الأمريكي، أما حركة حماس فبعد رفضها الأولي لأوسلو وما ترتب عليها، وبعد بذل تضحيات جبارة انتهت إلى أنه "ليس بالإمكان أحسن مما كان"، فدخلت لعبة تقاسم مغانم السلطة في سلطة يتحكم بمائها وهوائها وكهربائها يهود الغاصبون. وهذا ما حصل مع حزب إيران في لبنان الذي خلع شعار الثورة الإسلامية، وارتضى أن يتدجن ضمن سقف الوطنية اللبنانية الملتزم بسقف القانون الاستعماري في الأمم المتحدة، كما تجسد ذلك في قرار 1701 سيئ الذكر والذي حمى حدود يهود من صواريخ "ما بعد بعد حيفا". وإذا شاءت المصلحة الأمريكية تسخير حزب إيران ومجاهديه الأشاوس لتحقيق أهدافها في اليمن والعراق وسوريا فهذا يتم عبر توضيح التعليمات لرجالات نظام طهران، الذين يقودون الحرب الأمريكية في العراق وسوريا واليمن.
ثم يريد الكاتب أن يضحك على عقولنا بالزعم أن عملية أو اثنتين ضد يهود يعني تبرئة الذمة من واجب الجهاد! فهل يتم تحرير فلسطين عبر عمل تنظيمات فردية ليس لها حول ولا قوة إلا بمقدار حدود الدعم المقرر لها من هنا وهناك؟ فلأنقل، إذن، ما قاله لنا عباس زكي، سفير منظمة التحرير سابقا في بيروت، عن المهمة التي كلفه بها ياسر عرفات، في أثناء عدوان يهود على لبنان سنة 1982، حين كلفه بالتوجه إلى قادة اليمن الجنوبي ليطلب منهم تزويد المقاتلين في بيروت بأسلحة نوعية تمكنهم من صد عدوان يهود، فقامت القيادة اليمنية بإرسال وفد عالي المستوى إلى حافظ الأسد في دمشق ليطلب منه تمرير السلاح النوعي للمقاتلين في لبنان، وهم يعرضون عليه في المقابل، ما يشاء من اليمن الجنوبي، فكان جواب الأسد أن ضحك منهم وردهم خائبين.
فالاشتباك مع كيان يهود لا يكون بعمليات تنتهي إلى توقيع قرارات تضفي الشرعية على الكيان الغاصب تحت سقف الأمم المتحدة، بل يكون بإعلان الخليفة الجهاد لإزالة كيان يهود جملة واحدة، وليس الاكتفاء بتحرير أرض يقال عنها "لبنانية" مع الصمت عن جرائم يهود وعدوانهم على غزة واحتلالهم لأرض الإسراء والمعراج، بينما الأرض اللبنانية "المحررة" تعود إلى كنف شريعة الكفر المستوردة من الاستعمار الغربي، بينما جحافل "المجاهدين" مشغولة بالدفاع المستميت عن نظام البعث العلماني في سوريا على حساب دماء وأشلاء أهل سوريا المنتفضين على ظلم طاغية الشام، فانقلبت "الثورة الحسينية" من نصرة المظلومين إلى نصرة الظالمين.
طبعا انطلق الكاتب في حكمه من ظنه الخاطئ أن جريدة الراية التي يصدرها المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير هي جريدة "فلسطينية"، فيعجب كيف تشرّق الجريدة وتغرّب في تغطيتها لقضايا المسلمين شرقا وغربا بينما هي تهمل الشأن الفلسطيني، بزعمه المتهافت. ولو كان حسن النية لتواصل معنا في الجريدة فأوضحنا له ما أشكل عليه، ولكنه يأبى إلا الصيد في الماء العكر، ولكن أنّى له، فمثله كمثل من يريد تغطية شمس الحقيقة بغربال الكذب.
فحزب التحرير لم يكن "فلسطينيا" يوما، ولا "سوريا"، ولا "لبنانيا"، ولن يكون إلا حزبا سياسيا مبدؤه الإسلام الذي ينطلق منه ويلتزم به في كل شاردة وواردة، غير آبه لا بحدود سايكس بيكو ولا بالواقع الاستعماري الذي فرضه الغرب بشقيه الأوروبي والأمريكي. وللحزب أن يفتخر بحق أنه نجح أيما نجاح في تحقيق لحمة المسلمين حيثما وجد ونشط شبابه، من إندونيسيا وماليزيا والإيغور شرقا إلى بلاد ما وراء النهرين في وسط آسيا، ومن سيبيريا وتتارستان المحتلة إلى اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، ومن الشام إلى المغرب العربي... فله الفخر أن دعوته تغلغلت في شغاف قلوب المؤمنين الذين لا همّ لهم إلا الفوز بمرضاة الله سبحانه عبر الامتثال لأوامره بتنفيذ شرعه، غير آبهين بشرائع المستعمر. ولو كان عند الكاتب إنصاف لذكر عظم تضحيات شباب الحزب ونسائه في سجون طغاة آسيا الوسطى بدل الافتراء الفاضح بأن "تمدّد «التحرير»، أو قاعدته الشعبية الكبيرة، متركز في منطقة آسيا الوسطى، ويسمح له بالعمل ضمن آليات التنفيس السياسي هناك"، فأين قوله هذا مما ضجت به الدنيا من حملات القمع الهمجية التي يقوم بها حكام تلك المنطقة ضد عشرات الآلاف من شباب الحزب ونسائه؟ وأين إنصافه من مؤتمرات الخلافة التي ضجت بها حواضر المسلمين في لبنان وتركيا والسودان وتونس وإندونيسيا وماليزيا؟
أما طعنه ولمزه بأن الحزب لم يبين آليات عمل دولة الخلافة في حل قضايا الأمة، فهذا يشهد على نيته المسبقة بالتشويه والافتراء، فما قدّمه الحزب من برامج عمل تفصيلية، بدءاً من تفصيل أحكام الدستور وهو القانون الأساس لتنظيم عمل أجهزة الدولة بكل دوائرها في الحكم والاقتصاد والقضاء والتربية والجهاد، ووصولا إلى تفصيل السياسات الاقتصادية والتربوية اللازمة لحسن رعاية شؤون الأمة، بالإضافة إلى كيفية مقارعة الهيمنة الاستعمارية ليس فقط لتتحرر الأمة منها، بل ولتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس فلا تكتفي بتحرير الأراضي المحتلة في فلسطين وسواها بل تنطلق لتحمل رسالة الإسلام إلى الناس كافة فتخرجهم من نير الهيمنة الاستعمارية ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الحضارة الرأسمالية الفاسدة إلى عدل الإسلام ورحمته، فكل هذا مما لا يجهله إلا مغرض أو مخادع.
وهذا ما سيكون قطعا وحتما بتحقيق وعد الله ووعده الحق: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].
* مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع