تبلغ ديون اليونان حوالي 323 مليار يورو منها 60% لمنطقة اليورو (194 ملياراً) و10% لصندوق النقد الدولي (32.3 ملياراً) و6% للبنك المركزي الأوروبي. وقد أدت الأزمة المالية التي عصفت بالعالم منذ عام 2008 إلى تدهور اقتصاد عديد من الدول في العالم منها اليونان وإسبانيا وإيطاليا ما أدى إلى عجز هذه الدول عن سداد الديون المترتبة عليها، وكانت اليونان من أكثر الدول المتأثرة بالأزمة وأبعادها. وخضعت اليونان منذ سنين عديدة إلى برامج إنقاذ من قبل الدائنين في أوروبا خاصة ألمانيا. وقد انتهى موعد آخر برنامج إنقاذ يوم الثلاثاء 30/6/2015 ما أدى إلى حرمان اليونان من مليارات اليوروهات من حسابها في البنوك الأوروبية، وعجزت عن سداد 1.5 مليار يورو لصندوق النقد الدولي. ووصلت المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي الذي تسيطر على ماليته ألمانيا إلى طريق مسدود حيث وضعت ألمانيا شروطا قاسية من أجل استمرار برنامج الإنقاذ لليونان. ومن أهم شروط برنامج الإنقاذ أن ترفع اليونان ضريبة المبيعات بنسبة 30% والتي كانت قد سمحت بها ألمانيا في السابق، وأن يتم إلغاء دعم أكثر من 200،000 فقير في اليونان مع حلول عام 2020، وأن تخفض اليونان نفقات الدفاع بمقدادر 400 مليون يورو بدلا من 600 مليون كما تريد اليونان. وقد علق أحد المسؤولين الأوروبيين قائلا إن اليونان مهما عملت من تقشف وزيادة ضرائب فستبقى غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية، وستغرق في بحر من الفقر أكبر. وردا على شروط الاتحاد الأوروبي قررت اليونان أن تجري تصويتا على رفض أو قبول الشروط الأوروبية للإنقاذ، وقد صوت الشعب اليوناني بنسبة 61% بقوله "لا" للشروط الأوروبية للإنقاذ. وقد تباينت ردود الفعل حول هذا القرار اليوناني. فبينما أعلن رئيس وزراء اليونان تسبراس أن التصويت كان لصالح كرامة الشعب اليوناني، بينما قال نائب المستشارة الألمانية سقمار جبرائيل "أن تسبراس قد قاد بلاده إلى الشقاء وفقدان الأمل، وأن تسبراس قد هدم الجسور التي تمكن من الوصول إلى حل وسط، وأن إنقاذ اليونان أصبح صعبا للغاية". وعلّق وزير المالية الإسباني الذي يخشى أن تتعرض بلاده لنفس الأزمة قائلا: "انتصرت ديمقراطية اليونان".
أما عن تبعات هذه الأزمة فقد صرح وزير الاقتصاد الفرنسي أن المفاوضات لا بد أن تستمر وأنه ليس بمقدورنا سحق شعب كامل. في المقابل صرح وزير المالية الألماني أنه قد يتوجب على اليونان مغادرة المنطقة الأوروبية ولو مؤقتا. ومن الواضح أن ألمانيا هي أكثر الدول الأوروبية تشددا بالنسبة لليونان، وأن اليونان كذلك تخشى من فقدان سيادتها على كثير من مقدراتها المالية والاقتصادية لصالح البنوك والشركات الألمانية. ولعل أطرف ما في هذا الأمر التعليق الذي نشرته محطة BBC عن تنافس بين البلدين على الصعيد الفلسفي بين فلاسفة اليونان أمثال سقراط وفلاسفة ألمانيا أمثال هيجل وكارل ماركس!
ومن المتوقع أن تتفاقم الأزمة اليونانية خلال الأيام القادمة حيث ستبقى البنوك عاجزة عن الإنفاق على المشاريع واقتصار السحب من البنوك على الأمور الطارئة فقط والإنفاق الجيبي البسيط. ما سيؤثر بشكل كبير على حياة الناس في اليونان كما وصفه بعض اليونانيين بأنه "هر مجدون"* حقيقي ينذر بنهاية اليونان.
والحقيقة أن الموضوع ليس هو بقاء أو خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي. إذ إن الديون التي منحت لليونان من قبل الدائنين كما هي الديون التي تمنح الآن لكثير من الدول، يعلم كل ذي بصيرة أن هذه الدول ستصل يوما ما إلى درجة العجز عن سداد حتى فوائد الديون وخدمتها. وإن كانت اليونان قد أعلنت عجزها عن السداد وعدم رضوخها لشروط الدائنين، فإن دولا أخرى ستلحقها في نفس المنطقة مثل إسبانيا وقبرص وإيطاليا ورومانيا وغيرها. فالمشكلة الحقيقية التي على الشعوب أن تدركها هي الأنظمة المالية في العالم التي باتت تعيش على قروض ربوية من قبل البنوك العالمية والتي لا تنفك تقدم القروض وتحصد الفوائد الربوية باستمرار حتى إذا أوصلت الضحية إلى نقطة العجز انقضّت عليها لتنهب ما تبقى لديها من ثروات وتسلب ما لديها من إرادة. وإن كانت اليونان قد صوتت اليوم على رفض شروط البنوك الدائنة فإنها كذلك تصوت على العيش في فقر مدقع. فالخيارات المطروحة إما الموت بسكِّينة البنك المسمومة وإما الموت بقبضة الفقر المشؤومة. فبقاء اليونان في منطقة اليورو يعني مزيدا من المآسي والظلم والتقشف ورهن مقدرات اليونان للبنوك الألمانية وبيعها بالمزاد. وخروج اليونان من منطقة اليورو يعني أن تحرم من القروض التي اعتادت عليها لتعيش يوما بيوم. أمران أحلاهما مر!
وهذا الواقع الذي تعيشه اليونان اليوم ما هو إلا تجسيد لمشكلة عميقة الجذور تعود إلى تحكم النظام الرأسمالي بوحشية أنيابها البنوك الجشعة، وسمومها الربا القاتل. وما عبر عنه اليونانيون بوصفهم للمرحلة القادمة بأنها "هر مجدون" أي نهاية حتمية، تنطبق على كثير من الدول وحتى على أكثرها قوة وعنفوانا مثل أمريكا التي بلغت ديونها أكثر من 18 ترليون دولار، وبدأت تقترب بشكل متسارع من الوصول إلى نقطة العجز عن سداد فوائد الديون. حينها تكون النهاية المدمرة. وما حصل في اليونان من توقف البنوك عن الإقراض وصرف الأموال قادم لا محالة ليس في إسبانيا فحسب بل في أمريكا نفسها التي أذاقت العالم ويلات نظامها المالي الجائر. وصدق الله العظيم ﴿يمحق الله الربا ويربي الصدقات﴾.
*كلمة "هرمجدون" عبرية، والبعض يسميها "أر مجدون".. وهي مكونة من مقطعين: "هر" بمعنى جبل، و"مجدون" هو واد بأرض فلسطين، وبحسب الكاتبة الأمريكية "جريس هالسل"، فإنها تقول في كتابها "النبوءة والسياسة": إننا نؤمن كمسيحيين أن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تُدعى "أرمجدون"، وأن هذه المعركة سوف تُتَوّج بعودة المسيح.. وخلاصة مدلولها عند من يؤمن بوقوع تلك المعركة بأنها ستكون معركة مدمرة.
رأيك في الموضوع