شهد العالم في الفترة الأخيرة نشاطا ملحوظا لفرنسا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فعلى الصعيد الاقتصادي فقد شهد سوق السلاح الفرنسي انتعاشا غير مسبوق خلال عام 2015 منذ أن نجحت شركة رافال الفرنسية في بيع 36 طائرة مقاتلة للهند، وكانت قد باعت طائرات قبل شهرين لمصر. وتحتل فرنسا الآن المركز الثالث بعد الولايات المتحدة وروسيا بين الدول المصدرة للمعدات الدفاعية في العالم إذ بلغت قيمة صادراتها 4,9 مليارات دولار، تليها بريطانيا 4,1 مليار دولار ثم ألمانيا 3,5 مليار دولار. كما يتم الاتفاق الآن على صفقة بيع طائرات لكل من السعودية والكويت، وصفقة أخرى على بيع زوارق بحرية للسعودية.
أما على الصعيد السياسي فقد زادت فرنسا من نشاطها في دول شمال أفريقيا خصوصا الجزائر وتونس وخصوصا بعد أن تدخلت أمريكا بشكل صارخ في دول شمال أفريقيا بعد الربيع العربي من جهة ليبيا. ففي شهر شباط/فبراير 2014 كشفت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، عن وجود قوات كوماندوز أمريكية على الحدود الليبية الجزائرية، والتي يرجح أن تكون قد تدخلت للقضاء على جماعات إرهابية، وهي خطوة تتناقض مع التزامات ليبيا مع الدول المجاورة لها، وتعهداتها للجزائر بالتنسيق بين البلدين في المجال الأمني في إطار حماية الحدود ووقف تدفق السلاح والإرهاب، خلال زيارة الوزير الأول عبد المالك سلال إلى الأراضي الليبية. الصحيفة الفرنسية نقلت أيضا، عن مصدر عسكري فرنسي، أن تدخل القوات الخاصة الأمريكية جنوب ليبيا يثير قلق فرنسا، خاصة وأنه منذ نهاية عام 2013، تتواجد عناصر من وحدات "دلتا" متنكرة في زي البدو، مهمتها الأساسية أن تقوم بتدريب القوات الخاصة الليبية على مطاردة عناصر التنظيمات الإرهابية في جنوب ليبيا على الحدود مع الجزائر. وبحجة الإرهاب التقى الرئيس الأمريكي أوباما برئيس تونس السبسي وأعلن أن تونس حليف استراتيجي لأمريكا خارج الناتو في الحرب على الإرهاب.
والحقيقة هي أن أمريكا تزاحم فرنسا على نفوذها في دول شمال أفريقيا إلا أن الإرهاب هو اللغة التي يستخدمها المستعمِرون لتبرير تواجدهم في البلدان الأخرى من العالم. ولذا تقوم فرنسا الآن وبكل نشاط بتعزيز تواجدها في دول شمال أفريقيا من أجل الحفاظ على مصالحها والحيلولة دون خسارة نفوذها لصالح أمريكا. فحسب إحصائيات عام 2012 يوجد قرابة المئة ألف فرنسي يعيشون في دول شمال أفريقيا فقط خصوصا الجزائر وتونس والمغرب.
ولم يقتصر النشاط السياسي الفرنسي على منطقة شمال أفريقيا. ففي الشرق الأوسط تبنت فرنسا المعارضة السورية منذ بدء الثورة ضد بشار الأسد وتعمل بقوة لإنهاء حكم الأسد في سوريا في محاولة منها لكسر ركيزة من ركائز التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط والمتمثلة بالنظام البعثي في سوريا. كما تقود فرنسا ملف العقوبات الاقتصادية على إيران في ملفها النووي. ولكل هذه الأسباب يُرى تقارب وودٌّ بين دول الخليج وفرنسا في صفقات السلاح مؤخرا. فدول الخليج يؤرقها الهاجس الإيراني وخصوصا بعد التطورات الأخيرة في اليمن.
وتقوم فرنسا إلى جانب ألمانيا بالتصدي للأزمة الأوكرانية وتبنيها في المباحثات مع روسيا ودون تواجد أمريكا في المباحثات. وترهن فرنسا نزع العقوبات على روسيا بالتزامها اتفاقية مينسك رغم تضرر دول أوروبا اقتصاديا من مقاطعة الاقتصاد الروسي. وتعارض فرنسا مع ألمانيا مشروع أمريكا بنشر أسلحة نووية في القارة الأوروبية بقصد حماية أوروبا من مخاطر مستقبلية.
إن السياسة التي تنهجها فرنسا في وقوفها ضد المصالح الأمريكية في العالم هي سياسة صعبة ولكنها سياسة منتجة وسياسة تليق بدولة مستقلة ذات تاريخ في السياسة الدولية في العالم. إن فرنسا تدرك أنها حينما تضع مصيرها في يد أمريكا فإن هذا سيؤدي إلى خطر أكبر من خطر مواجهة مصالح أمريكا في العالم. ولذا وقفت فرنسا بقوة أمام أمريكا في الملف العراقي والسوري والإيراني وغيرها من الملفات الكبيرة في العالم. إن رهن إرادة الدولة في يد دولة أخرى يؤدي إلى ما لا يؤمن عقباه وفرنسا تدرك ذلك ولذا هي تجني الأرباح الآن جراء هذه السياسة الذكية والنشيطة والشجاعة، فهلا أدرك الرويبضات حكام المسلمين ذلك؟!.
بقلم: د. فرج ممدوح
رأيك في الموضوع