اندلعت أحداث شغب واسعة في أنحاء بالتيمور في ولاية فيرجينيا وتبعتها موجات احتجاجات في مدن أخرى إثر وفاة شاب أسود يوم الاثنين 27/04/2015م إثر إصابته في رأسه ورقبته بعد احتجازه من قبل الشرطة.
تكرار مثل هذه الحوادث يشير إلى عمق قضية التمييز العنصري وتداعياتها في أمريكا، ويدفع المتابعين إلى البحث عن الأسباب الحقيقية وراءها، خصوصاً وأن الهمجية والعنف في التعامل مع غير الأبيض الأمريكي سواء في داخل أمريكا أو خارجها هو ثابت في الفعل الأمريكي منذ نشأتها.
لقد حمل أولئك الإنجليز الذين شكلوا نواة تأسيس الولايات المتحدة معهم فيروس العنصرية ذات الطابع الديني، والتي كانت تجتاح أوروبا في القرن السادس عشر، لكن ولعدم وجود الآخر المغاير دينياً في أمريكا فقد حولوا عنصريتهم ضد العرق واللون الآخر، وأسبغوا عليه "المهمة الإلهية".
رياح العنصرية العاتية التي حملها الرجل الأبيض إلى الولايات المتحدة دفعته إلى التوجه أولا إلى أصحاب البلاد الأصليين وهم الهنود الحمر لاجتثاثهم في مذابح تستعصي على الوصف، ثم هي الرياح العنصرية نفسها التي دفعته إلى أن يذهب وراء المحيطات لسرقة وجلب الأفارقة ليستعبدهم محل الهنود من أجل إعمار البلاد للسيد الأنجلو-ساكسوني. فكانت الإبادة الجماعية واستعباد الأفارقة ثمرة من ثمار العنصرية البغيضة.
يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689 – 1755) والذي ألف كتاب روح القوانين وهو مصدر الإلهام للدستور الفرنسي وغيره "إن لنا حقاً مكتسباً في اتخاذ الزنوج عبيداً، وإن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم يعد أمامها إلا أن تستعبد شعوب أفريقيا لكي تستخدمها لاستغلال هذه الأقطار الفسيحة، فما هذه الشعوب إلا عناصر سوداء البشرة من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، ولا يمكن أن الله جلت قدرته يضع روحاً طيبة في مثل هذا الجسم الحالك السواد".
لقد شارك مفكرو الغرب وفلاسفتهم مونتسكيو رأيَه هذا، وما عليك إلا أن تقرأ آراء فيخته وترينشكه وداروين ونيتشه وهربربت سبينسر وغيرهم، لتعلم أن هناك شبه إجماع على ذلك.
لكن لمّا رأت أمريكا أن ما تدعيه من أفكار الديمقراطية والليبرالية والحريات وحقوق الإنسان تتناقض تماماً مع النظرة العنصرية العرقية، فقد حاولت أن تتجاوب مع ثورة السود أوائل الستينات من القرن الماضي بزعامة مارتن لوثر كينغ، والذي كان يحلم بأن يعيش أطفاله الأربعة في يوم من الأيام في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم، فتم الاعتراف القانوني سنة 1963 بالأمريكيين من أصول إفريقية كمواطنين كاملي الأهلية.
لن يستطيع الرئيس الأمريكي الأسود أن يفعل شيئاً لأهله رغم تصريحه الأخير في مقابلة تلفزيونية بعد أحداث بالتيمور بأن "العنصرية متأصلة بعمق في أمريكا"، وصدق البروفيسور الألماني في العلاقات السياسية كريستيان هاك عندما قال "أوباما لم يؤدّ أي دور سوى لون بشرته، إلا أنه يتناغم مع البيض أكثر من أبناء جلدته، وحتى إنه يبدو في بعض الأحيان أكثر بياضاً من البيض أنفسهم".
تحاول مرشحة الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون أن تقطف ثمارا انتخابية من استغلالها لتداعيات العنصرية الدموية عبر الإيحاء بتبنيها سياسات جديدة تجاه ذلك الواقع المزمن، وذلك بحديثها عن معالجة السبب وليس النتيجة، وكسر الحلقة المفرغة التي تضم الجهل والفقر والجريمة. لكن كلينتون لن تخرج في معالجاتها عن النظرة السطحية للأمور، بالتوجه إلى معالجات بعض النواحي الاقتصادية والبطالة وفرص العمل والتفاوت الاجتماعي وممارسات الشرطة العنصرية تجاه السود، وزيادة عدد السود في الشرطة وأجهزة الدولة وغير ذلك من الأمور المادية.
إن المشكلة الحقيقية التي تواجهها أمريكا والتي تتسبب في كل تلك الدموية سواء في داخل أمريكا أو في خارجها هي مشكلة فكرية بالدرجة الأولى وما تلك الممارسات إلا ثمرة مُرة يصبغها لون الدم لتلك الفكرة الباطلة التي تحملها.
إن النظرة الفلسفية التي تنادي بالتفوق العنصري للشعوب الأوروبية على اختلاف قومياتها على مَنْ دونها من البشر وتقدم الجنس الأبيض على غيره من الأجناس، والنظرية الغربية في التفاوت بين الأعراق ذات الطابع الدارويني والتي قسمت الجنس البشري كله إلى أعراق منها العليا وهم الأريون وبخاصة النورديون، وأعراق دنيا كالزنوج والعرب واليهود، هي الأساس الفكري لتلك العنصرية الدموية القاتلة.
في نهاية القرن الخامس عشر وقبيل استرقاق الأفارقة كانت المعاني الكامنة عندهم في كلمة أسود سلبية بشكل بارز، فكما جاء في قاموس أوكسفورد في اللغة الإنجليزية، فالأسود هو: ملطخ للغاية بالقذارة، قذر، ملوث، شرير، مميت، مهلك، سبب الكوارث والنجس، فاسد، فاسق، أثيم، مرعب، يدل على الخزي والجرم. وقد ذكر ذلك كله كافين رايلي في كتابه الغرب والعالم.
كل زيف إعلام الغرب وتشدقه بأفكار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمساواة لم تستطع أبداً أن تمسح من عمق الرجل الأبيض العنصري ذلك التعريف للرجل الأسود، وظلت مفاهيم الأعماق تجعل الرجل الأبيض وبكل حقد يضغط على زناد بندقيته كلما واجه رجلاً أسود.
إن الحل لهذه القضية لن يكون إلا بأفكار عقيدة عقلية، ينبثق عنها نظام من عند خالق الكون والإنسان والحياة:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾
رأيك في الموضوع