القتال ليس هو طريقة إقامة الدولة في الإسلام، ولكن من أثر الواقعية السقيمة التي تَقْلب الحق باطلاً والباطلَ حقا، أن أصحابها ينكرون على مَن يلتزم من الحركات والأحزاب الإسلامية طريقةَ رسول الله في العمل لإقامة الدولة (التي هي أحكام شرعية)، ينكرون عليها عدمَ وجود كتائب أو أجنحةٍ مسلحةٍ لها. فكأن هذه الحركات في نظرهم مقصرة في عملية إصلاحِ شأن الأمة بعدم القيام بأهم ما في الإسلام من أنماط المواجهة مع الغرب في بلاد المسلمين وهو القتال!! والحقيقة هي أن جل هذه الحركات الواقعية وقعت في جميع الفخاخ التي نصبها الكافر المستعمِر لمنع عودة الخلافة إلى ديار المسلمين، كانتهاج القتال سبيلاً لإقامة الدولة. ومن ذلك أيضاً وهو أبرزه أنها وقعت في فخ الأنظمة العميلة من حيث إنها لم تعد تُحمِّل مسئوليةَ القيام بفريضة الجهاد العظيمة - ولو دفاعاً بدرء مخاطر الكفار عن بلاد المسلمين ومقارعة أعداء الأمة من الكفار المستعمرين - لم تعد تحمِّل ذلك ولا شيئاً منه لحكام الأمر الواقع ولا حتى لقادةِ جيوش المسلمين في هذه الدول القائمة اليوم، وكأنها أعفتهم من المهمة وأقامت هي أجنحةً وكتائب مسلحةً استعاضت بها عن الجيوش النظامية (التي أفرادها مسلمون)، فانظر إلى أثر الواقعية!! وأقرَّت بذلك واقعاً مريراً يريده الاستعمارُ في جميع أقطار بلاد المسلمين يقول إن هذه الجيوش ليست منا، وإنما هي من بطانة الحكام المرتبطين بالأعداء في الغرب، إذ مهمتها حمايةُ الأنظمة العميلة من غضب الشعوب المسلمة ومنع هذه الأخيرة من إسقاطها عند حدوث أية مواجهةٍ في صراع الأمة مع عدوها الحقيقي وهو الغرب الكافر، ولو بقتل المسلمين وسفك دمائهم وإزهاق أرواحهم (وقد حدث ذلك مراراً على مر عقود)!! فهذه الجيوش بحسب هذا الفهم هي إذاً في الصف الآخر!!
وليس الأمر كذلك في حقيقة الأمر، إذ أفراد هذه الجيوش بجميع أسلاكها مسلمون تماماً كما نحن وجميع أبناء الأمة مسلمون، ولكن يقع على عاتق من يعمل لإنهاض الأمة بالفكر والسياسة أن يوقظ فيهم جذوةَ الإيمان ونخوةَ الإسلام ببث الوعي السياسي من زاوية الإسلام في أوساطهم تماماً كما في أوساط غيرهم (بضرب الفكرة الوطنية الدخيلة على المسلمين مثلاً)، إذ المشكلةُ في الأمة فكرية سياسية، ليتحركوا باتجاه نصرة الحق ونصرة الشعوب التي ينتمون إليها لا لحراسة الحكام العملاء الظالمين في هذه الدول الوطنية الوضيعة، وهذا هو موضع التحدي اليومَ لقلب موازين القوى في مجتمعات المسلمين باتجاه قيام دولة المسلمين، وهي الخلافة على منهاج النبوة! وهذا في الحقيقة هو أخشى ما يخشاه الغرب ويحترز من حدوثه من خلال أجهزته التي لا تنام. كما أن هذه الحركات الواقعية - هي وأذرعها وكتائبها المسلحة - بحكم طبيعة نشأتها وبحكم وظيفتها وواقعيتها، وبحكم تورطها في ما يتطلبه العملُ العسكري من أموال كثيرةٍ وعدة وعتاد وتدريب وتخطيط وتجهيز وتموين واستخبار وغيره، لا تبصر ما وراء الجدار، ولا تأمن أن تقع في حبائل الدول الإقليمية والقوى الغربية من ورائها!! ولا يسعها - وهي حركات في مواجهة جيوش نظاميةٍ ودول - إلا أن ترتمي في أحضان الأنظمة القائمة والقوى الإقليمية حتماً، ولا يسعها - وهي ليست سياسيةً بحكم فلسفتها - إلا أن ترتبط قطعاً بمخططات المستعمِر عبر الأنظمة القائمة العميلة من حيث تدري أو لا تدري، فتقع بذلك في شرَك تقزيم معنى الجهاد أو تشويهه بحسب أغراض المخططين أو الممولين أو الداعمين! علماً أنها في واقع الأمر لم تقم في الماضي ولا تقوم اليومَ إلا بما هو أقل من الحد الأدنى من الجهاد شرعاً، وهو ما يسمونه المقاومة أو ما يشبهها (ضمن سياسات ومخططاتِ الأعداء وضمن معطياتِ الواقع الذي فرضه المستعمِر في بلاد المسلمين) لتحقيق أهداف أكثر ما تكون مشبوهة، أو بغرض تنفيذ أجنداتٍ سياسيةٍ غربياً مطلوبة، وهو ما يُفضي في الغالب إلى مزيد من الكوارث والهزائم المروعة، التي تصبح في الإعلام انتصارات، وتنقلب سلباً على الأمة في أكثر الحالات!! وهو أبعد ما يكون من تحقيق شيء مما تريده الأمةُ حقيقةً. وأسوأ من هذا كله أنها تعيب على غيرها من الحركات السياسية القائمة على أساس الإسلام (التي لم تَحْذُ حذوها) استهدافَها إقامةَ ما هو أوجب من رد عدوانٍ هنا أو هناك وهو دولة الخلافة على منهاج النبوة التي ستضطلع بفريضة الجهاد العظيمة من خلال جيوشها على أكمل وجه، إذ الجهاد ليس هو المقاومة ولا هو الدفاع فقط، بل هو أسمى وأعظم من ذلك بكثير. لذا وجب في هذا المقام إبراز معنى الجهاد العظيم في الإسلام ولو على سبيل الإيجاز.
فما من وجهٍ للمقارنة بين الجهاد في سبيل الله الذي هو واحد من أعظم الفروض الجماعية في الإسلام، والذي هو إجمالاً قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، وبين الاستعمار البغيض الذي تمارسه الدول الغربية بوصفها دولاً رأسماليةً، وهو بسط النفوذ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وإحكام السيطرة على الشعوب المستضعفة من أجل استغلالها ونهب خيراتها وسرقة ثرواتها، أي أخذ ما عندها وحرمانها منه ولو بإفنائها وإبادتها. وواضح مما فعله المسلمون على مر العصور أيام العز والرفعة أن الجهادَ هدفه إزالة حكم الطواغيت من على وجه الأرض، فهو القتال من أجل ألا يبقى على وجه الأرض نمط من أنماط الحكم التي يتسلط فيه بشر على بشر ظلماً وعدواناً. قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193]، فيُخلى بعدئذ بين الناس وبين رؤية دين الحق. ولن يتحقق ذلك على أكمل وجه إلا بأن يُحكم الناس بالإسلام مطبَّقاً في واقع حياتهم بعد إزالة الحواجز المادية، وهي كيانات طواغيت الأرض من الملوك الجبابرة والحكام الظلمة والمفسدين. فتمت كلمة ربك الحسنى على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنْ كُلِّفت من قِبل العزيز العليم بأن تقومَ بهذا العمل العظيم. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...﴾ [البقرة: 143]. فجُعلت أمة محمد واسطةً بين الرسالة المتضمَّنة في الوحي الذي أنزله رب العالمين على خير المرسلين وبين أمم الأرض وشعوبها جميعاً، فالشهادة هي في الآخرة على التبليغ، كما هو واضح في الآية، والله عاصم هذه الأمة من الزوال. فيثبت من هذا الباب أيضاً وجوب وجودِ الدولة في حياة الأمة، وهي الدولة الإسلامية وهي دولة الخلافة. وذلك أن الجهاد فرض جماعي، ولا يتأتى إلا أن يكون كذلك. وهو على الكفاية بمعنى أنه يجب أن يقومَ به المسلمون بوصفهم جماعةً أي دولةً بحيث يتحقق على أرض الواقع على الدوام جميعُ ما من أجل تحقيقه فُرض، أي جميع أهدافه ومنها تبليغ الرسالة وإرهاب العدو وألا يجرؤ على قتالهم أحد. فهو عمل تُباشره الجيوش في الدولة، وليس في أذهان المسلمين حين مباشرته بسط الهيمنة ولا التوسع ظلماً ولا الإخضاع بهدف أخذ الخيرات ونهب الثروات فضلاً عن الإبادة، بل إعلاء كلمة الله وإظهار دين الحق على الدين كله. كما يتحقق به أيضاً إنقاذ الناس وإخراجهم من ظلمات الجاهلية وضيق الدنيا إلى نور الإسلام وسعة الآخرة. ولهذا أُمر المسلمون دوماً أثناء القتال أن يقاتلوا المقاتِلةَ دون سواهم، أي ألا يتعرضوا لغير من عزم على التصدي لدعوة الحق وعزم على الصد عن سبيل الله. وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سبيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، وليس معناه ألا يقاتل المسلمون إلا دفاعاً. وبما أن القتال الذي فُرض في هذه الآية (كما في غيرها) هو بهدف إظهار دين الحق على الدين كله، فإنه لا يصح مطلقاً تعليل الجهاد (لا شرعاً ولا عقلاً) بإدخال الناس في الإسلام، وإلا لجاز أن يستعاض عن القتال بأي عمل يؤدي غرضَ تعريف الناس بالإسلام أو إدخالهم فيه، وهو ما سيلغي حكمَ الجهاد من الشريعة بالمرة. أما قتال الأعداء من الكفار المحاربين المعتدين دفاعاً عن حرمات المسلمين وحفاظاً على الأمة وكيان الدولة فهو من باب أولى. فالجهاد عمل عظيمُ الأجر والثواب والمنزلةِ عند الله في الدنيا وفي الآخرة، كما أنه عظيم الأثر في حياة الأمة. وبالمجمل فهو الطريقة الثابتة التي دل عليها الشرع لحمل وإيصال رسالة الإسلام إلى الناس كافةً في جميع أنحاء الأرض، ومن ذلك إزالة حكم أعداء الله من وجه البسيطة والغلظة على الجبابرة المتسلطين على رقاب الناس على مر الأزمنة، وهدفه أن يُحكمَ الناس بشريعة الرحمن أي بما أنزل الله دون سواه، بغض النظر عما إذا دخلوا في الإسلام أم لا، إذ يُخلّى بينهم بعد ذلك وما يختارونه من معتقد. فالجهاد حكماً ومعنىً أمر ثابت في الشريعة إلى يوم الدين. فهل يعقل أن تتخلى أمة محمد عن هذه المهمة الجليلة؟؟ قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، [الصف: 9]. أقول: فما تكون إذاً عند الله منزلةُ العمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي ستضطلع بجميع هذه المهمات الجسيمة وتقيم كلَّ هذه الفروض الجماعية العظيمة، والتي يتوقف القيام بها على أكمل وجهٍ على وجودها؟ وهل في هذه المسألة بعد هذا القول من قول؟!!
بقلم: صالح عبد الرحيم
رأيك في الموضوع