بعد أن أقام رسول الله e دولته في المدينة المنورة وبدأ بتطبيق الإسلام على جميع رعايا الدولة داخليا وبدأ بتسيير السرايا والبعثات خارجيا ليفرض هيبة الدولة وبعد تاريخ من المواجهات مع قريش وغيرها من القبائل في الجزيرة، ومواجهات خارج الجزيرة كما حدث في مؤتة، وبعد صلح الحديبية بدأ عليه الصلاة والسلام بإرسال الرسل إلى خارج الجزيرة للروم والفرس والمقوقس ونجاشي الحبشة؛ بعد كل هذه التحركات العسكرية والسياسية التي قام بها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم والتي استطاع بها وبغيرها تثبيت أركان دولة الإسلام الناشئة حتى وهو على فراش الموت ما زال عليه الصلاة والسلام يوصي بإنفاذ بعث أسامة لعلمه وقناعته أن القوة العسكرية واستعراضها في ذلك الزمان كان عامل الردع الأكبر وعلامة القوة للدولة.
ثم سار الصحابة الكرام والخلفاء الراشدون ومن بعدهم على ذلك ففتحوا البلاد ونشروا الإسلام وأخرجوا الناس من ظلمات الجهل والتبعية للروم والفرس إلى عز الإسلام وعدل الإسلام، وبقيت دولة الإسلام على ذلك لأكثر من ألف عام؛ الدولة الأولى في العالم مهابة الجانب تطبق الإسلام وتحمله رسالة للبشرية، بغض النظر عن بعض الهنات أحيانا التي كانت تنتابها إلا أنها كانت تنتفض وتعود لتسنّم موقعها الأول ولم ينافسها أحد، بل كانت الرسائل الموجهة للخليفة من حكام أوروبا توقَّع بخادمكم المطيع، وبقي الوضع كذلك حتى منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر وبعد ظهور المبدأ الرأسمالي حيث ظهرت على المسرح الدولي دول أوروبا القديمة وبالذات إنجلترا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا، وبدأت هذه الدول بالإضافة للدولة العثمانية بالتحكم بالموقف الدولي، وتصرف شؤون العالم وتهدد السلم وتقرر الحرب، ثم هدمت الدولة العثمانية وأخرجت من المسرح الدولي وأصبح المسلمون لا راعي لهم وقسمت بلادهم بين المستعمِرين، وأصبحت بلاد المسلمين ساحة للتنافس الدولي بين الدول الكبرى حتى استقر الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لأمريكا فهيمنت وتغطرست وتجبرت وأصبحت سيدة العالم والدولة الأولى بلا منازع تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في العالم.
فالموقف الدولي - ويقصد به حالة العلاقات الدولية بين الدول المؤثرة في زمن معين أو علاقة الدول بعضها ببعض وعلاقتها مع الدولة الأولى - كما رأينا متحرك ومتغير ولا يثبت على حال، فطبيعة الدول أنها متصارعة وتحاول التأثير وزحزحة الدولة الأولى ومنافستها للحفاظ على مصالحها أو حتى على وجودها، والأمة الإسلامية ممثلة بكياناتها السياسية الحالية أمة هزيلة لا وزن لها ولا احترام، وهي محل تنفيذ لمخططات الدول الأخرى ومحل صراع بينها لا غير، لا تملك من أمرها شيئا لا لضعف طبيعي فيها بل لعمالة وخيانة وجبن حكامها وساستها الذين أوصلوها بما فرضوه وطبقوه عليها من أنظمة في جميع مناحي الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومناهج تعليم مستوردة وقوانين وعلاقات لا تمت لعقيدة الأمة ولا لروحها وسر عظمتها بصلة، بل وأجبروها أن تنسلخ من دينها بحجة أن لا علاقة للدين بالحياة ويجب الفصل بينهما.
وعلى هذا فالأفراد بفرديتهم لا يؤثرون بشكل مباشر في الموقف الدولي وإنما يمكن أن يؤثروا على دولهم بمحاسبتها سياسيا لاتخاذ موقف معين من حدث معين، والأصل أن الدول هي التي تؤثر تأثيراً مباشراً في الموقف الدولي، وحتى تؤثر الدولة في الموقف الدولي يجب عليها أن تكون دولة مبدئية تمتلك مشروعاً حضارياً ورؤية سياسية بالإضافة للنفوذ والقوة المادية أو العسكرية، ومن أكثر الأمم المؤهلة الآن لهذا هي الأمة الإسلامية؛ فالمسلمون يشكلون طاقة بشرية هائلة فهم يزيدون عن ربع سكان العالم وبلادهم من أغنى بلاد العالم في الثروات الطبيعية كالنفط والغاز وغيرها وأكبرها مساحة وتنوعا في التضاريس والمناخ، وتحتل بلادهم موقعا استراتيجيا متوسطا العالم أجمع، ومفتوحة على كل الممرات المائية والبحرية المهمة في العالم، بالإضافة للعراقة والتجربة التاريخية؛ فالمسلمون ودولتهم تاريخيا كان لهم الأثر الأكبر في تشكيل الوعي الحضاري الإنساني وترسيخ مفاهيم العدل بكل أشكاله حتى في التعامل مع الحيوان والأشجار والمحافظة على البيئة ومواردها.
فلا يمكن للأمة الإسلامية أن يكون لها تأثير في الموقف الدولي دون أن تكون لها دولة عظيمة بعظم مبدئها ورسالتها، وقوية بما أودعه الله فيها من صفات التنوع البشري؛ فهي لا تميز بين البشر؛ فكل الناس سواسية بغض النظر عن عرقهم ولونهم، وبما تمتلك بلادهم من ثروات ومواقع استراتيجية؛ هذه الدولة وبهذه الصفات مؤهلة أن تقود العالم حضاريا بعد أن اكتوى بوحشية الرأسمالية وظهر للعالم أجمع عوارها وفسادها على كل المستويات، والدولة الإسلامية دولة مبدئية تحمل الإسلام رسالة للبشرية، فلا بد لها من أن تكون الدولة الأولى بعلاقاتها مع الدول الأخرى تؤثر في العلاقات الدولية على مستوى العالم، وكان لزاما على قادتها وساساتها ورجالها السياسيين أن يكونوا سياسيين عالميين يتابعون ويحللون ويؤثرون في السياسة الدولية ويتمتعون بقدر عال من الوعي السياسي على كل ما يدور ويحدث في العالم، بمعنى أن يكون وعيهم السياسي كاملاً، وهذا هو دور الحزب المبدئي قبل الدولة وبعدها؛ فهو يعد ويؤهل سياسيين عالميين قادة عقائديين قادرين على إدارة شؤون الدولة داخليا ويتمتعون بوعي سياسي كامل للمحافظة على بقاء الدولة الإسلامية بعلاقاتها الخارجية الدولة الأولى في المسرح الدولي.
رأيك في الموضوع