لم يعد الثلاثون من آذار/مارس يوماً يتعلق بحدث معين في سلسلة الأحداث التي تجري يومياً على أرض فلسطين شاهدة على إجرام يهود بحق أهل فلسطين، لم يعد هذا اليوم والذي أطلق عليه يوم الأرض يوماً عادياً خاصة في ظل الظروف الحالية التي تحيط بقضية فلسطين كما يحيط حبل الموت بالأعناق المعلقة على منصة الإعدام.
يوم الجمعة الماضي انطلقت جحافل من أهل غزة للمشاركة في مسيرات العودة تدفعهم روح النضال والعطاء والتضحية غير المحدودة، ليثبتوا أنهم صمام الأمان ضد كل أشكال التصفية والتفريط بقضيتهم بحسب التحركات الدولية وعبر الأدوات الإقليمية والمحلية، وهم في كل تحركاتهم وفعالياتهم يثبتون المرة تلو المرة أن قضية فلسطين هي قضية إسلامية بامتياز، بل هي من أعظم قضايا المسلمين، رغم كل ما يمارس عليها من التضليل والتزييف.
لم تشفع سلمية المشاركين في المسيرات لهم، فانهالت رصاصات يهود على الحشود لتحصد عشرات الشهداء، ومئات الجرحى في جريمة دموية يندى لها الجبين تسجل في سجل جرائم يهود بحق أهل فلسطين، بينما وقف حكام المسلمين يتفرجون، ورفعا للعتب فقد استنكر بعضهم كما فعل حكام مصر والأردن وتركيا، في حين يدرك الجميع أن النظام المصري هو ركن أساس في حصار أهل قطاع غزة والتضييق عليهم، وكذلك نظام الأردن الذي لا يدخر جهداً في المحافظة على أمن يهود، أما النظام التركي الذي يتستر بتصريحات جوفاء رنانة بينما تفضحه تحركاته على الأرض، فقد كُشف أخيراً أنه كانت هناك مساعٍ لتركيا في 2007 من أجل إقناع حركة حماس للاعتراف بكيان يهود، وحقه في الوجود، والانخراط في عملية سياسية تجعل حماس مقبولة دولياً، وترفع عنها كل أسباب الحصار، أما تحركات الكويت لدى مجلس الأمن في محاولة لإدانة كيان يهود وفشل ذلك عبر الضغوط الأمريكية فقد أثبتت ما هو مثبت بأن العدو الأساس لأمتنا هو أمريكا وأنها تحمي ربيبها كيان يهود.
إن من أكبر العقبات في طريق حل قضية فلسطين، وإنهاء معاناة أهلها، هو اعتبارها قضية وطنية تخص أهل فلسطين وحدهم، وسلخها عن جسد الأمة الإسلامية، وإعفاء الأمة من المسؤولية عنها، وحصر دورها في إطار المساعدات المالية والمعونات الإنسانية لا بوصفها صاحبة القضية، يقع على عاتقها فرض تحرير فلسطين واستئصال كيان يهود واجتثاثه من فوق الأرض المباركة كنبتة خبيثة!
وفي هذا الإطار يحاول بعض ضيقي الأفق، ومعهم المضلَّلون بمفهوم (الوطنية)، والمرتبطون بالغرب وأجنداته ومشاريعه، أن يقنعوا الناس بأن لا أمل من تحرك الأمة، ولا جدوى من استنهاضها، وعلينا أن "نخلع الشوك بأيدينا"، وأنه ما "حك جلدك مثل ظفرك"، والسؤال لهؤلاء جميعاً أليست الجراح النازفة في بلاد المسلمين ومنها فلسطين نتيجة لهدم دولة الإسلام في الثالث من آذار/مراس 1924م؟! وماذا صنعت (الوطنية) فينا سوى أنها أثخنت جراحنا ومزقت أشلاءنا وكرست إرادة المستعمر المتمثلة باتفاقية سايكس بيكو؟ وماذا أنجز (الوطنيون) في بلادنا سوى أنهم استبدلوا بالاستعمار الأجنبي فيها استقلالات مزيفة؟ ورضوا بأن يلعبوا دور النواطير لمصالح ذلك الأجنبي باختلاف أسمائه ومسمياته؟ ألم يصدق فينا القول الشائع "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" فسمحنا لعدونا تحت مبرر وطنيتنا أن يستفرد فينا، ليؤكل كل وطن من أوطاننا على حدة دون أن يقدر الآخرون أن يمنعوا ذلك، إلا أن ينتظر دوره؟!
هذا من جهة ومن جهة أخرى أيهما أجدى لنا وأنفع؟! العمل والاجتهاد على إحياء الأمة وإيقاظها من سباتها بحسب زعمهم، أم الارتماء في أحضان الغرب الكافر، ومطالبته عبر دوله ومؤسساته الاستعمارية المختلفة التدخل في حل قضايانا، وإلقاء قضايانا في دهاليز مجلس الأمن والأمم المتحدة، تلك المؤسسات التي لم يشهد التاريخ لها يوماً بأنها أحقت حقاً أو أبطلت باطلاً، أو نصرت مظلوماً، وما تحركاتها تلك حول العالم إلا بما يخدم مصالح الدول الاستعمارية؟!
أليست الأمم المتحدة التي يتمسك البعض بقراراتها بخصوص قضية فلسطين، ويجعلها مرجعية للحل، ويحرك الجماهير تحت شعار المطالبة بتحقيق تلك القرارات - قرار 194 على سبيل المثال -، أليست هي من اعترفت بكيان يهود وحقه في الوجود على معظم أرض فلسطين؟! أليست هي شاهدة على جرائم يهود بحق أهل فلسطين ثم يتساوى عندها الضحية وقاتلها؟ أليست هي من تعتبر جهاد أهل فلسطين ليهود المحتلين لبلادهم إرهاباً، بينما تعتبر إجرام يهود في حق أهل فلسطين دفاعاً عن النفس؟!
وإذا كان الحديث الأبرز في هذه الأيام عن التحرر والتحرير، فلتحمل الجماهير رسالة واحدة، ولترفع الفعاليات نداء واحدا "أزيلوا العروش وحركوا الجيوش"، "أزيلوا الحدود واخلعوا كيان يهود"، فالأمة وجيوشها قادرة على تحرير فلسطين، وما يمنع من ذلك إلا تلك الحدود المزيفة والمصطنعة، والأنظمة الحارسة لها، بذلك يكون التحرك منتجاً والهدف واضحاً وقابلاً للتحقيق، وإن عميت عنه بعض الأبصار وصمّت دونه بعض الآذان لقلة وعي وقصر نظر، غير ذلك ستبقى تلك الدعوات وتلك الشعارات فارغة من أي مضمون يعبر عن إرادة الأمة ومنها أهل فلسطين الذين يحاول البعض أن يحملهم كامل المسؤولية في تحقيق الحرية وإنجاز مشروع التحرير. وستبقى تلك الأصوات صرخة في صحراء، وتلك التحركات زوبعة في فنجان تحركها العواطف ثم لا تلبث أن تخمد نار حماستها وتبقى الحال على ما هي عليه، إن لم يزدد سوءاً وتردياً، ما دام سقف تلك التطلعات وأدوات تحقيقها محكوماً بما حدده الكافر المستعمر، فمن بدهيات التحرر والتحرير، ومن أولى أبجدياته أن تكون لنا هويتنا الخاصة وشخصيتنا المميزة وثقافتنا الذاتية المستندة إلى عقيدتنا الإسلامية، لا أن نكون صدىً لما يردد الغرب في أفكاره ومعالجاته وطريقة عيشه، والتساوق مع مشاريعه السياسية المتعلقة بقضايانا ومنها قضية فلسطين، وهو ما يوجب على أمتنا الإسلامية أن تكسر تلك القيود والأغلال التي وضعها الكافر المستعمر على العقول لتبقى أسيرة لأفكار ومفاهيم التقسيم والفرقة ضمن حدود الوطنيات العفنة، والقوميات الضيقة، ونبذ الحلول التصفوية لقضية فلسطين باختلاف عناوينها والجهات الداعية لها، سواء حل الدولة الواحدة، أو حل الدولتين، أو ما يروج له أخيراً ضمن التحركات الأمريكية وخطتها للحل فيما سمي بـ"صفقة القرن".
فكم هو مزرٍ ومضحك معاً، أن ندير ظهورنا لعدونا وندعي محاربته، ثم نمد كلتا يدينا من خلفنا لنتناول سمومه القاتلة، أوليس قمة التناقض أن نطلب من عدونا أن يحررنا بينما هو يحتل بلادنا؟ أو نطلب منه أن يعيننا في إقامة دولة لنا بينما هو الذي هدم دولتنا - دولة الخلافة -؟ أو نطلب منه أن ينصفنا في حقوقنا بينما هو من أعان على قتلنا واغتصاب أرضنا وظاهر على إخراجنا منها؟ أو نطلب منه العلاج لمشاكلنا والحلول لقضايانا بينما هو من يشعل الفتن فيما بيننا ويتربص الدوائر بنا، ويحوك الخطط، ويكيد المكائد ليسحقنا، ويستولي على بلادنا ومقدراتنا وثرواتنا، ليساكننا الفقر والجوع والمرض، والانحطاط والتخلف، وتبقى له السيادة والقيادة، والكلمة الفصل في هذا العالم؟!!
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع