قال خبراء سودانيون، خلال حديثهم في ورشة (سودانية حلايب بالمواثيق والعهود)، نظمها مركز دراسات المجتمع (مدا)، إن الخرائط والمواثيق والقوانين الدولية تشير إلى سودانية حلايب، وتؤكد ما ذهب إليه السودان بأنها تمثل جزءاً أصيلاً من السودان أرضاً وشعبا، وإن جميع الخرائط والمواثيق والقوانين الدولية تؤكد سودانية حلايب وشلاتين، المتنازع عليهما مع مصر، معلنين رفضهم لما يتعرض له أهل حلايب من مضايقات، وتشديد لإجراءات الدخول والخروج منها وإليها، ومحاولات التمصير وطمس هويتهم السودانية. (شبكة الشروق 13 كانون الثاني/يناير).
هناك حقائق في نزاعات الحدود لا تنجلي بالوثائق التي خطها المستعمر، وصنع بها دويلات وظيفية، تعبر عن وجهة نظره في الحياة، وتحقق له أهدافه ومصالحه، وقد عودنا الرأسماليون المستعمرون على تزوير الحقائق في تطبيقهم العملي للمكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) فسموا احتلالهم لبلاد غيرهم ونهب ثرواتها، بأنه استعمار، أي طلب الإعمار، كما سمّت أمريكا حربها على العراق وأفغانستان بأنها حرب لأجل بسط الحريات، والديمقراطية، فإذا بها إعادة هذه المناطق إلى ما قبل التاريخ، لهذا فمن غير العقلانية أن نبحث عن الحقائق والبراهين عند مَنْ طبيعته تزوير الحقائق والبراهين.
ومن أبرز الحقائق التي تحسم أمر الحدود المصطنعة بين بلاد المسلمين، أنها صنيعة الاستعمار في العام 1916م، فقد رسمت بريطانيا وفرنسا حدوداً بين بلاد المسلمين، في إطار ترتيبات الدول الاستعمارية الصاعدة، لاقتسام ممتلكات الخلافة العثمانية، ضمن اتفاقية (سايكس بيكو). وبعد الإطاحة بالقيصر الروسي نيكولاي الثاني في الثورة الشيوعية عام 1917م عثر الشيوعيون بزعامة فلاديمير لينين على نسخة من الاتفاقية، في الأرشيف الحكومي، ونشروها في إطار فضح أطماع الدول العظمى في وراثة السلطنة العثمانية، ولم يمنع ذلك من عقد مؤتمر سان ريمو الذي يتوافق مع تصورات مارك سايكس، وجورج بيكو، في رؤية تقسيم العالم الإسلامي.
والحقيقة الأهم هي أن الهدف الأساسى لترسيم الحدود، هو تجزئة بلاد المسلمين؛ الذين لا قوة لهم بلا وحدة، فتمكن من إنهاء وحدتهم حتى يسيطر عليهم بقاعدة فرق تسد، وتمكن من ذلك بهذه الحدود، وتمكن أن يزرع قنابل موقوتة فيما بينهم، تكاد تنفجر، ومع الأسف لم تتمكن الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين، على مر المئة سنة الفائتة، من نزع فتيل هذه القنابل، بل إنها حرست هذا الفتيل ليفجر الصراع في أي وقت، وذلك بحرصها على حدود وهمية، وضعها المستعمر بنفسه، وترك بعضها عن قصد، من غير ترسيم، مثل حلايب بين مصر والسودان، وجزر "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى" بين إيران والإمارات، وأيضا حدود اليمن والسعودية... وهكذا، لتظل حالة الحرب الفعلية أو الحرب الباردة هي ما يميز علاقة هذه البلاد.
في جميع هذه الصراعات حول الحدود، يملك كل طرف وثائق وخرائط، أقرت في حقبات زمنية مختلفة، تزيد من الأزمة وتصعب الوصول لحل، بسبب تمسك كل طرف بوجهة نظره، وكلا الطرفين لديه وثائق وخرائط، وبسبب تضارب الوثائق والخرائط، يظل طلب الوثائق والخرائط من المستعمر ليفيد في حقيقة هذه الحدود، وهو استعمار فوق الاستعمار القديم، أو هو استمرار لاستعمار صنع هذه الحدود. وعلينا أن نتساءل: ما مدى مشروعية المواثيق الدولية، ومصداقيتها في ترسيم الحدود؟ ومتى كان المستعمر مصدراً للحقيقة؟! ألا يوجد مصدر آخر موثوق عندنا باعتبارنا مسلمين، لمعرفة حقيقة الحدود بين بلاد المسلمين؟ يقول البريطاني وينستون تشرشل، بنوع من التشفي، "إننا تركنا وراءنا آثاراً لا تزول بمائتي سنة"، وقد صدق وهو كذوب، فها هي الحدود ومشاكل الحدود تطل بين الفينة والأخرى مشعلة الحروب، وستبقى إلى أن تحل حلاً حقيقياً يحرر بلاد المسلمين من الشرك الحدودي اللعين الذي صنعه المستعمر، وتمسكنا به وحرصنا عليه، وهذا المستعمر يسعى للوحدة والاندماج ويلغي استفتاء إقليم كتالونيا الإسباني الساعي للانفصال بحسم شديد.
ونرجع إلى جذور الصراع على مثلث حلايب، بين السودان ومصر، فمنذ عام 1958 يؤكد كلا الطرفين على أحقية امتلاك مثلث حلايب، المثلث الحدودي الغني بالمعادن والثروة السمكية. وتبلغ مساحته 20,850 كيلومتراً مربعاً، ويقع أقصى الشمال الشرقي للبحر الأحمر من جهة السودان، ويضم ثلاث بلدات كبرى هي: أبو رماد، وشلاتين، وحلايب، فمصر تعده من بين أراضيها، بموجب اتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري عام 1899، التي عبرها تقاسمت بريطانيا ومصر استعمار وإدارة السودان. ورسمت "الاتفاقية" الحدود السودانية المصرية، واعتبرت كل الأراضي الواقعة عند خط العرض 22 شمالاً مصرية، وهو الترسيم الذي ترفضه السودان.
بعد ذلك قامت الإدارة البريطانية بإعادة ترسيم الحدود، وضمت مثلث حلايب للسودان عام 1902، بعد أن وجدت القبائل السودانية تعيش داخل الحدود المصرية، ومع احتجاج تلك القبائل، أصبح المثلث داخل الأراضي السودانية، وهو ما تسميه مصر "خط التقسيم الإداري" ولا تعترف به. في عام 1956م ولد كيان سياسي حديث وهو السودان، وأصبحت حلايب متنازعاً عليها، تقول مصر إن ضم مثلث حلايب للسودان بداية، كان إدارياً وليس سياسياً. بينما يعلل الجانب السوداني أحقيته بالمثلث، كون الاستعمار البريطاني حدد الأراضي السودانية بما فيها المثلث، عند ضمه للسودان سياسياً وليس إدارياً.
والحقيقة أن مثلث حلايب، ليست مسألة نزاع حدودي وحسب، وإنما هي ورقة ضغط سياسية ومتنفس شعبي تستخدمها الدولتان، لتجييش الرأي العام فيهما، كما يعد مقياساً لتردي وتحسن العلاقات بين البلدين، فكلما كانت العلاقات طيبة بينهما، يتم نسيان المثلث، والعكس صحيح! كما تعد ورقة يلعبها الفرقاء السياسيون والإعلاميون في مصر، والمضي قدما نحو تمصير حلايب. أما في السودان فتتهم المعارضة السودانية نظام البشير بتفريطه في سيادة البلاد، وذلك لسياسة تمصير حلايب، التي يقوم بها الجانب المصري، وسكوت حكومة السودان على ذلك، كما يضع الإثيوبيون بدورهم يدهم على منطقة الفشقة، الغنية بالأراضي الخصبة، شرقي البلاد من الناحية الجنوبية. والرد الرسمي من الحكومة "لا تفريط في أي شبر من أراضي السودان" وهذا ما يكذبه الواقع بذهاب نحو ثلث التراب السوداني بعد انفصال جنوب السودان في 9 تموز/يوليو 2011م، واندلاع نزاع حدودي، كلف البلدين حربًا اقتصادية وعسكرية باهظة التكاليف، ولكن عند توحد المصالح في الحوار الوطني بين الحكومة والمعارضة لا ذكر لحلايب يطفو على السطح!
هذا الواقع المتأرجح يوجب على المفكرين، والخبراء، ليس البحث في وثائق الاستعمار، وخرائطه، للتدليل على أن حلايب سودانية وليست مصرية، بل الواجب على الخبراء إزالة هذه الحدود الوهمية، التي تفصل المسلم عن أخيه المسلم، فأرض المسلمين واحدة، ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وحلايب أرض خراجية إسلامية لا يضيرها أن يسكنها مصري أو سوداني، ولكن الذي يضيرها هو أن تحكم بغير أحكام الإسلام، ما جعلها نزاعاً تجيش لأجله الجيوش ليقتل المسلم أخاه المسلم، وبتنا نرى دفاعا مستميتاً عن هذه الكنتونات لمفكرين ومثقفين أبوا أن يرتفعوا بآرائهم عن هذا الواقع الفاسد، فبدل أن يعمل المفكر المثقف على إزالة الحواجز والحدود من خريطة الواقع، تراه يتراجع ليستسلم لهذا الواقع المشؤوم وبزرعه في وعي وعقل السذج والبسطاء، وبدل أن يزيل المثقفون الكنتونات من داخل عقول الناس، وقلوبهم، عملوا بصورة أو بأخرى على نصب الحواجز والموانع، أمام كل فكرة خيرة تجمع لحمة الأمة بما يبثونه من سموم فكرية رجعية، وأقاموا السيطرات المسلحة لتفتيش عقول الناس ومحاسبتهم ليمنعوا انبثاق أية فكرة للتمازج، والاختلاط، بين أبناء الدين الواحد، فأصبحوا يعارضون شرع الله الصريح.
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [سورة آل عمران: 103]
فقد أمر الله الأمة جميعا أن تعتصم بحبله القويم، قال ابن عاشور رحمه الله: "والاعتصام افتعال من عصم، وهو طلب ما يعصم أي يمنع، والحبل: ما يشد به للارتقاء، أو التدلي، أو للنجاة من غرق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم منقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمثيل، وقوله: ﴿جَمِيعاً﴾: حال وهو الذي رجح إرادة التمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كل مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمة كلها، فوحدة المسلمين ليست خيارا استراتيجيا يلجأ إليه المسلمون عند الحاجة أو الضرورة، بل هي أصل من أصول الدين الكلية، وقاعدة من قواعده العظمى، والتفريط فيها معصية توجب غضب الله وعذابه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾ [سورة الأحزاب: 39].
فإذا كانت الحدود الجغرافية صنيعة الاستعمار، فإن إزالة الحدود العقلية هي مسؤولية الجميع، خصوصاً الأحزاب السياسية، والعلماء، وأصحاب القلم والبيان، من المفكرين والمثقفين.
رأيك في الموضوع