عندما انطلقت ثورات فيما سمي بالربيع العربي، كان الهدف من انطلاقتها بدايةً محاولة رفع ما وقع على هذه الأمة من الظلم من قبل حكام نصَّبهم على رقابها أعداءُ هذه الأمة، حيث لم يكن يوماً لها يد في اختيارهم.
فقد كانت ثورة شعوب ولم تكن ثورة مثقفين أو نخب، كانت حركات مجتمعية، انطلقت بدافع الشعور بالظلم ساعية إلى رفعه، كما لم تتخذ قيادة سياسية واعية تقودها إلى تحقيق ما ثارت الشعوب لأجله، وهذا ما يفسر سرعة التفاف الغرب على بعض هذه الثورات عبر أدواته وتمكنه من إعادة الشعوب إلى وضع قريب مما كانت عليه مع تغيير بسيط في وجوه الحكام!
غير أن واقع ثورة الشام يختلف عن واقع غيرها من الثورات، فقد بدت مطالب الأمة أكثر وضوحاً وأكثر جدية، فلم تقتصر مطالبها على رفع الظلم فقط بل بدأت الأمة تبحث عن هويتها التي فقدتها منذ هدم خلافتها، بل وأكثر من ذلك؛ فقد شعرت الأمة بأن عليها أن تسترجع سلطانها المسلوب وأن تختار قيادتها وحكامها، وهذا ما يفسر فشل كل المحاولات التي حاولت دول الكفر أن تفرضها على أهل الشام بالرغم مما وقع عليهم من قصف وتدمير وتقتيل وإجرام من قبل النظام وأعوانه دول الكفر قاطبة وأذيالهم من حكام العرب والعجم، أضف إلى ذلك تآمر الكثير من القيادات والسياسيين الذين اختارهم الغرب الكافر ومضى بهم في سوق التنازلات في جنيف وموسكو وأستانة وغيرها من عواصم المكر والخديعة.
نعم لقد فشلت كل هذه المؤامرات حتى الآن في أن تفرض على الأمة قيادة تقبلها، تعيد من خلالها إنتاج النظام ويبقى لدول الكفر وعلى رأسها أمريكا النفوذ والسيطرة على أهل الشام ومقدراتهم.
وقد غاب عنهم أن النظام ساقط لا محالة ولن ينفعه ما يقوم به من الترويج الإعلامي الكاذب للمصالحات المزعومة، أو إعادة سيطرته على مناطق شاسعة بأسلوب مكشوف رخيص، ولقد بدا ذلك واضحاً جلياً في معركة البوكمال، فبعد سحب مقاتلي التنظيم ونقل قيادييه بواسطة حوامات التحالف لم يستطع النظام أن يدخل المدينة إلا بمؤازرة الحشد الشعبي الشيعي وحزب إيران له، ثم عاد التنظيم وسيطر عليها في سيناريو تكرر كثيراً حتى تعوّد الناس عليه!
لكن في المقابل لا نستطيع أن نقول بأن ثورة الشام تسير على الطريق الصحيح الذي سيوصلها إلى ما خرجت من أجله الأمة وقدمت التضحيات الجسام، فمما لا شك فيه بأن ثورة الشام تمر الآن بمرحلة صعبة وحاسمة، هذه المرحلة اتسمت كما غيرها من المراحل بالحاجة الماسة إلى القيادة الواعية المبصرة التي تقودها إلى النصر المحتم بإذنه تعالى.
وقد بدا ذلك مؤخراً من خلال الأحداث والأعمال العبثية التي انشغلت بها بعض الفصائل من اقتتال داخلي أو السير مع مخططات الدول الإقليمية العميلة التي تكيد بأهل الشام وثورتهم خدمة لدول الكفر، إلى الوقوع في خديعة دول الكفر من خلال تصديقهم لوعودهم الكاذبة.
فالأكراد في الشمال دخلوا في لعبة دول الكفر "محاربة الإسلام" تحت شعار محاربة (الإرهاب)، بعد أن منّوهم كذباً وزوراً بدولة كردية مستقلة، وقد غاب عنهم أن أمريكا وغيرها من دول الكفر لا تهتم لإرادة الشعوب إلا بما يخدم مصالحها، فأحلام زعماء الكرد هذه قدتبخرت وما حدث في كردستان العراق في الآونة الأخيرة ليس عن هذا ببعيد!
وفي الشمال تنشغل الفصائل بإدارة ما بقي من المناطق المحررة على الوجه الذي يقربها ويحسن صورتها عند أعداء الأمة وكأنهم سيرضون عنهم، وقد تركوا قتال النظام، اللهم إلا "معارك هامشية غير مجدية"، وكأن النظام سقط ولم يعد يتربص بهم الدوائر!
أما في الجنوب فقد تداعت بعض الفعاليات والشخصيات، محاولين فرض أنفسهم قيادة سياسية وعسكرية، يروجون للمشروع العلماني، ويحاولون فرض أنفسهم وصاة على أهل الشام، ناسين أو متناسين بأن أهل الشام لن يقبلوا بغير المشروع الإسلامي بديلاً بعد أن قدموا الغالي والنفيس، كيف لا وقد قال رسول الله e: «عقر دار الإسلام في الشام».
وكذلك فقد قامت بعض الفصائل بمحاولة فك الحصار عن بعض مناطق في ريف دمشق الغربي، ضمن معركة "كسر القيود" تاركين ظهورهم مكشوفة ليهود، متناسين آيات الله عز وجل التي حذرت هذه الأمة من اليهود صراحة وفي أكثر من آية، وتاريخهم مع هذه الأمة ينطق بغدر يهود على مدى العصور منذ نشأة دولة الإسلام في المدينة المنورة، وقد كانت نتيجة هذا العمل الارتجالي، أن أوقع اليهود بينهم وبين الدروز، الأمر الذي طالما عمل عليه النظام السوري ليجعل الدروز ينخرطون بمجملهم في مواجهته مع أهل الشام، ويُظهر النظام ويهود بأنهم حماة للدروز وغيرهم من الأقليات! وقد وقع المجاهدون في هذا الفخ ولا يزال من نجا منهم محاصراً ينتظر نجدته.
هذه الأمور وغيرها من اقتتال ومعارك هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع، أدت إلى استنزاف طاقات وإمكانات الكثير من الفصائل وإضعافها في المواجهة أمام النظام، إضافة إلى زرع اليأس في نفوس الأمة؛ فبعد أن كانت تنظر إليهم بإجلال واحترام على أنهم مخلّصوها من ويلات النظام، فقد صرفت النظر عنهم وهي تتطلع إلى أن يخرج من رحمها غيرهم من أبنائها المجاهدين المخلصين يقودون مسيرة الجهاد نحو إسقاط النظام وإقامة نظام الإسلام.
وعليه فإن الوعي على مخططات دول الكفر وعلى رأسها أمريكا مطلوب أساساً، فهي التي تقود الحرب لإنهاء ثورة الشام، وهي التي حددت مهام حكام الضرار في الدول الإقليمية من حكام العرب والعجم، وهي التي أعطت لروسيا مهمة التدمير القذرة لدعم نظام الأسد، وهي التي تدعم النظام في السر والعلن وفي المحافل الدولية وغيرها، وما زيارة المسؤول الأمريكي مؤخراً لدمشق واجتماعه مع علي مملوك إلا مؤشر واضح على أن الاتصالات مع النظام لم تنقطع يوماً، لذلك كان لزاماً حتى تنتصر ثورة الشام - وهي منتصرة بإذنه تعالى - أن تختار قيادة سياسية متبصرة، تعلم ألاعيب دول الكفر وعلى رأسهم أمريكا، وتكون هذه القيادة متبصرة بالطريق وأخطاره، الطريق الذي يحافظ على نقاء الثورة، ويسير على ثوابتها الواضحة في إسقاط النظام بكافة رموزه وأركانه وقطع أحابيل دول الكفر وإقامة سلطان الإسلام، فالأمة قد انتقلت من مرحلة السبات إلى البحث عن الهوية، وهي ترتقي يوماً بعد يوم، ويتبلور هدفها في إعادة سلطانها المسلوب من عقود خلت، وهي تتلمس الطريق إلى ذلك، وستختار بإذنه تعالى القيادة المخلِصة المخلِّصة التي تمتلك مشروع الأمة وتسير معها إلى حيث إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ وعد الله عز وجل وبشرى رسوله e ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الروم: 4-5]
بقلم: الدكتور محمد الحوراني*
* عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع