مضت شهور طويلة على حالة القهر التي يتعرض لها قطاع غزة بسبب قرارات السلطة الأخيرة بقطع الرواتب وقطع الكهرباء في ظل حر الصيف، ولم يشفع دخول شهر رمضان في ظل الحر كي تقلل ولو قليلا من قطع الكهرباء، والأمر الغريب هو تواطؤ حركة فتح في الضفة مع قرارات عباس الأخيرة، بينما شهد قطاع غزة حالة تململ من قياداتها وعناصرها بسبب أزمة الرواتب، بينما لم تثرهم أفعال سلطة عباس الخيانية.
وكثير منهم يبرر إجراءات عباس المتصاعدة تجاه غزة بحجة إنهاء الانقسام وحل اللجنة الإدارية التي شكلتها حماس بعد انتخابات مكتبها السياسي الأخيرة.
فهل حقا أن عباس قرر إنهاء الانقسام؟ وهل هو فعلا حريص على ما يسمى بالمشروع الوطني وهو ذات المشروع الأمريكي القاضي بحل الدولتين؟ وهل حقا إن تشكيل حماس للجنة إدارية جديدة هو السبب الحقيقي فيما يفعله؟.
إن المتابع لحال السلطة منذ سنوات، يدرك وقوفها في حالة عجز شديد وشلل أمام ما كانت تمني به الناس وأتباعها، بل وبعد مجيء ترامب وزيارته للسلطة وكيان يهود، لم يقدم أي مشروع عملي، بل لم يذكر حل الدولتين الذي لطالما تشدقت به السلطة، وهو الأمر المتوقع في ظل انشغال أمريكا بقضايا أكثر سخونة كالعلاقات مع روسيا والصين والأوروبيين.
بل ما زاد حنق السلطة ورئيسها، إدراكهم أن أمريكا قد بدأت تعد العدة لرحيل عباس، وهو الأمر الذي خرج من نطاق التوقعات إلى نطاق المداولات الإعلامية.
فالعام الماضي قامت أمريكا بعقد لقاء لبحث موضوع السلام، جمع فيه جون كيري وزير خارجية أمريكا السابق كلا من عبد الله ملك الأردن والسيسي ونتنياهو ولم تدع له السلطة ورئيسها، وأعلن تشكيل لجنة رباعية عربية تضم الأردن ومصر والسعودية والإمارات، وهو ما أثار حفيظة عباس وهاجمها بقوة لأنها ستكون بديلا عن السلطة وعنه.
ومن ثم وفي محاولة لإضفاء نوع من الشرعية على سلطته ومن معه قام بإجراء الانتخابات البلدية في الضفة فقط.
وبعد مجيء ترامب وتعيين مبعوثه للسلام غرينبلات، والذي تعامل هو والسفير الأمريكي الجديد في كيان يهود مع عباس بنوع من الصلف وطلب منه مطالب حول قطع الرواتب عن عائلات الأسرى والشهداء، وغيرها من المطالب المذلة، واستجاب عباس لبعضها جزئيا، ما ساهم في زيادة النقمة الداخلية عليه، دون أي تحرك أمريكي حقيقي تجاه ما يطالب به عباس وهو حل الدولتين.
بل زاد الأمر عليه بأن بدأت حماس اتصالاتها مع خصم عباس محمد دحلان وبعلم كل من الإمارات ومصر، والتي توترت علاقات عباس بها في ظل السيسي، بسبب إقصاء وتهميش عباس لكثير من السياسيين المقربين من أمريكا، لصالح قيادات تحسب على الحرس القديم ولها علاقات متميزة بالنظام الأردني، بينما كان السيسي يطالبه بإعادة دحلان المفصول من حركة فتح، إلى الحركة والسلطة، دون أي تجاوب من عباس.
فما أثار حفيظة عباس تجاه حماس مؤخرا هو إدراكه اتصالاتها بدحلان، وأن الأمر يتجاوز الاتصالات إلى إيجاد شرعية سياسية لدحلان من خلال غزة، يقفز منها دحلان إلى الضفة ويكون أحد ركائز خلافة عباس والمحيطين به من رجالات الحرس القديم.
لذلك كان ضغطه على حماس بحجة اللجنة الإدارية، وفي الحقيقة أن كل تلك الإجراءات تستهدف الضغط على حماس لكي لا تعطي شرعية لدحلان من خلال علاقاتها به وبمصر.
وفي المقابل فإنه وبعد الانتخابات الأخيرة لحركة حماس والتقارب الحاصل بين قيادتها في غزة ومصر، فإنه من الصعوبة بمكان أن تنهي هذه العلاقة رغم أنها لم تحل أياً من مشاكل غزة.
ورغم محاولات قطر إحداث مصالحة ما بين طرفي السلطة، وتعهد المبعوث القطري محمد العمادي بدفع رواتب موظفي سلطة غزة لمدة عام ريثما تجرى انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة، إلا أن حماس طالبت بضمانات حقيقية للموضوع.
وهكذا تستمر حياة الشقاء في قطاع غزة، بين شد وجذب وضنك اقتصادي يتحمله الطرفان وكيان يهود الذي له باع كبير من الضغط على قطاع غزة.
فتخوفات عباس ليست خوفا على بقايا مشروعه "الوطني"، بقدر ما هي تخوفات على نفوذه ونفوذ من حوله، بينما كانت له فرص كبيرة في الأعوام الماضية لتحقيق المصالحة، وحماس والتي ملت من الانتظار وترى قيادتها الجديدة مصلحتها في التقارب مع مصر ودحلان، وهي تحاول الخروج من أزماتها المالية وعبء تحمل تكاليف سلطة كاملة بدون موارد داخلية، اللهم ما تجنيه من ضرائب ومكوس.
لكن اللافت في محاولة عباس البقاء وهو ومن معه أمام فكرة استبدالهم، تحركاتهم وتنسيقهم مع النظام الأردني لتقارب السلطة مع الأردن وزيارة الملك لعباس في رام الله وإعلان الاتحاد الأوروبي زيادة دعمه المالي للسلطة، بينما قلص عدد من الدول العربية من مساعداتهم للسلطة.
فعباس بإجراءاته تجاه غزة، وبإظهار بطولته الوهمية تجاه إغلاق الأقصى، وبمحاولته عقد المجلس الوطني بعد عقده الانتخابات البلدية، يحاول أن يستمد شرعية له ولرجالات فتح من الحرس القديم، وبتنسيق أردني يسعى للحفاظ على النفوذ الإنجليزي في السلطة والضفة، وما موقف السلطة من زيارة الوفد الأمريكي ومطالبته بإلزام كيان يهود بحل الدولتين، وإثارة حالة الامتعاض من تلك الزيارة بشكل واضح وعلى لسان عدد من مسئولي السلطة وفتح، إلا مثال على تبرم عباس من نية أمريكا استبداله وتجميد ملف المفاوضات إلى حين.
وبالطبع فإن الوفد الأمريكي المبتعث إلى المنطقة قد جاء إليها ليس لإعادة المفاوضات أو إحياء وهم عملية السلام، وإنما لضبط إيقاع السلطة وكي لا تسرح بعيدا عن توجهات أمريكا، أو تعقد مصالحة من وراء ظهرها وظهر مصر برعاية قطرية أردنية تقطع الطريق على تقارب حماس مع مصر وتعطي السلطة شرعية جديدة، ولذلك استضافت مصر التابعة لأمريكا، اجتماعا ثلاثيا يوم السبت الماضي، ضم السلطة والأردن ومصر في القاهرة، وتم تقرير إبقاء ملف المصالحة بيد مصر، وذلك لمنع عقد أية مصالحة مفاجأة برعاية قطر والأردن ومن ورائهم الإنجليز، بل إن تصريح أحمد يوسف المقرب من حركة حماس في 16/8، بضرورة استغلال فرصة وجود المبعوث القطري العمادي في غزة لحل اللجنة الإدارية وإلقاء الكرة في ملعب عباس يكشف هذا التوجه.
فالقضية عند عباس ورجالات فتح من الحرس القديم لا تتعلق بما يعرف بالثوابت والتي أضحت متغيرات بقدر ما هي محاولة للبقاء، وعلى تأزيم حياة أهل غزة والمتاجرة بمعاناتهم.
بقلم: حسن المدهون
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
رأيك في الموضوع