أعلن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي يوم الأربعاء 10/05/2017 أن الجيش سيحمي مستقبلا مناجم الفوسفات وحقول الغاز والبترول من أي تحركات شعبية قد تعطل إنتاجها. وقال السبسي في خطاب ألقاه بقصر المؤتمرات في تونس أمام نحو 200 من مسؤولي الدولة وممثلي الأحزاب والمنظمات المحلية "من هنا ومستقبلا الجيش التونسي هو الذي سيحمي مناطق الإنتاج".
وأضاف "أنبّهكم، عندما يتولى الجيش مسؤولية فإن التعامل معه يصبح صعبا". وتابع: "أعرف أنّ هذا قرار خطير لكنه ضروري لأن الديمقراطية شرطها الأساسي هو دولة القانون وإن كنّا متمسّكين بالدّيمقراطية فيجب أن نقبل بدولة القانون".
جاء خطاب السبسي بعد أن فشلت حكومة يوسف الشاهد في إسكات الاحتجاجات الشعبيّة التي ما فتئت تنتشر لتشمل أغلب مناطق البلاد، ولقد اختار الرئيس هذه المرّة أن يكون ظهوره في خطاب "منتظر" روّجت له وسائل الإعلام وجمع فيه كلّ المسؤولين (وزراء، وكتل برلمانيّة، وهيئات دستوريّة، ومعارضة، واتّحاد الشّغل واتّحاد الأعراف...) إيهاما بأنّه سيكون خطابا فصلا، يحسم المشاكل ويضع خطوطا كبرى لحلّها، غير أنّ الخطاب لم يكن سوى إعلان قرار تكليف الجيش حماية مصادر الموارد الطبيعيّة من فوسفات ونفط وغاز.
كشف خطاب الرئيس عن عقليّة الطبقة السياسيّة الحاكمة اليوم في تونس فهي العقليّة نفسها التي حكمت تونس منذ بورقيبة وبن علي، فالحاكم في تونس لا يرى المشكلة في نظامه ولا في مسؤوليه إنّما المشكلة في النّاس، فالسبسي رأى أنّ الأزمات المتراكمة السياسيّة والاقتصاديّة والإنسانية وحتّى الأخلاقيّة، تكمن في احتجاجات الناس المتواصلة وأنّها هي التي أزّمت الأوضاع وعطّلت الإنتاج ممّا قلّص موارد الدّولة الماليّة واضطرّت الحكومة إلى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للاقتراض حتّى فاق الدّين العمومي 63 في المائة من الناتج الخام.
هكذا وقف السبسي يوم 10 أيار/مايو 2017 ينزّه حكومة الشّاهد مُديناً جماهير النّاس التي خرجت تطلب حقّها في ثروات بلادها ويحمّلها مسؤوليّة الأزمات المتراكمة في البلاد. وأنّه لم يبق له وللحكومة من خيارات سوى إقحام الجيش لمواجهة تصاعد الغضب الشعبي في تطاوين وقفصة والكاف وقرقنة والقيروان وغيرها من الجهات التي سيشملها قرار تكليف الجيش حماية مصادر إنتاج الثروات الباطنيّة. ثمّ إنّ الرئيس لم يكتف بإعلان قرار عسكرة مناطق الثروة، بل هدّد المحتجّين بعواقب مواجهة المؤسسة العسكريّة التي "تختلف في تعاملها مع الاحتجاجات عن المؤسّسة الأمنية" حسب تعبيره.
نعم إنّ الباجي ومعه الفئة الحاكمة ترى أنّ المشكل اليوم في النّاس وأنّ على النّاس أن يصبروا فإن لم يستطيعوا الصّبر فسيُجبرهم رصاص الجيش على الصبر. هكذا فكّر من قبلُ بورقيبة ثمّ بن علي، فالجميع يذكر أحداث كانون الثاني/يناير 1978م حين واجه بورقيبة احتجاجات النّاس برصاص الجيش وسقط المئات من القتلى وكرّرها في 1984م، وهكذا خطب بن علي يوم 28/12/2010 متّهما المحتجّين بأنّهم مجرّد عصابات تخريبيّة ساءها نجاح الدّولة فأمر قنّاصته بقنص النّاس وأنزل الجيش إلى الميادين من أجل إرهاب النّاس وإسكاتهم.
إنّها العقليّة نفسها، عقليّة الطّغاة تتواصل، والسياسة نفسها، سياسة نحكمكم أو نقتلكم، تستمرّ.
في تونس مناطق كثيرة تحوي ثروات باطنيّة: الجنوب كلّه (أكثر من ثلث البلاد) من صفاقس إلى تطاوين وقبليّ أكبر ولايتين في تونس وهي الولايات التي تحوي ثروات هائلة من النفط والغاز، ومناطق الحوض المنجمي في قفصة تشمل كامل ولاية قفصة وتمتدّ إلى ولاية توزر جنوبا تحوي مناجم الفوسفات وإذا أضفنا إليها ولايتي القيروان (الوسط) (حيث كشفت شركة كنديّة عن مخزون نفطي غزير) وولاية المهديّة (الساحل) حيث حقل النفط في السواسي، وولايات الشمال الغربي (سليانة والكاف) حيث ثروة من الفوسفات تقدّر بـ 10 مليارات من الأطنان من الفوسفات الذي يقول الخبراء إنّه يحوي اليورانيوم، وولايات الشمال الشرقي حيث تنتصب منصّات البترول في عرض البحر... وأحواض الملح التي تمتدّ على طول السّاحل الشرقي من الساحلين إلى جرجيس.
أغلب هذه المناطق عانت طوال سنوات الاستعمار الفرنسي من "العسكرة" والاستغلال الفاحش، ستجد نفسها مرّة أخرى محاطة بأسلاك شائكة بسبب قرار رئاسي لم يجد غير الآلة العسكرية ليردّ على مطالب المحتجّين ولم يبحث عن خيارات أخرى غير التعامي عن الأسباب الحقيقيّة لغضب المحتجّين الذين أنهكهم الفقر والبطالة وهم يرون شاحنات الفوسفات تغدو وتروح أمامهم كلّ يوم محمّلة بثروات بلادهم ويرون أنابيب النفط والغاز تسيل بثرواتهم نحو موانئ تحملها إلى ما وراء البحار، وهم إزاء كلّ ذلك لم يحصّلوا سوى التلوّث والأمراض والموت ووعود كثيرة لا تأتي!
لقد كان ملفّ الثروات من الملفّات الفاضحة حيث فضح الهيمنة الاستعماريّة على البلاد التونسيّة، وانكشف للجميع أنّ الشركات الاستعماريّة تسيطر على أغلب ثروات البلاد بعقود فضيحة بل جريمة، وانكشف للجميع أنّ الفئة السياسيّة في تونس تواطأت على هذه الجريمة فقد رفضت الحكومات المتعاقبة كشف العقود أو مراجعتها، بل استماتوا في الدّفاع عن مصالح الشركات الاستعماريّة، فرأينا الحكومة بطمّ طميمها تهرع ذات ليلة إلى جزيرة قرقنة من أجل تثبيت وجود شركة بتروفاك البريطانيّة وضمان مصالحها على حساب شباب جزيرة قرقنة المعطّلين، والحال أنّ القضاء التونسي أثبت في تشرين الأول/أكتوبر 2011 أنّ شركة بتروفاك تحصّلت على امتياز حقل الغاز بقرقنة برشوة المدعو منصف الطرابلسي صهر الرئيس المخلوع بن علي، ممّا يجعل امتلاك بتروفاك البريطانيّة لحقل الغاز غير مشروع وغير قانوني ويجيز للدولة التونسيّة أن تسترجع الحقل بل يجيز لها أن تحاسب الشركة وتستردّ منها كلّ ما نهبته، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى شركة بريتيش غاز التي استولت على حقل ميسكار في صفاقس منذ 1992م بنسبة مائة بالمائة وما زالت تنهبه إلى اليوم، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الملح (الذهب الأبيض) فقد استأثرت به شركة كوتوزال الفرنسيّة بعقد منذ 1949م تستولي به الشركة على مساحات شاسعة بسعر فضيحة (0،03 دينار للهكتار) والجريمة أنّ وزير الصّناعة سنة 2016م مدّد لهذه الشركة عقدها بـ10 سنوات أخرى... هذه بعض أمثلة عن جريمة الطبقة السياسيّة (وما خفي كان أعظم).
المسألة في تونس اليوم: نظام ديمقراطيّ تسرّبت من ثقوبه أركان النّظام السابق، وكثير من الانتهازيين إلى الحكم قبلوا أن يكونوا سماسرة للشركات الاستعماريّة التي تستولي على ثروات البلاد، فلمّا انكشف الأمر وقام النّاس يريدون استرداد بلادهم وثرواتهم من الاستعمار قامت الحكومة تريد ترويضهم وخداعهم وامتصاص غضبهم ففشلت، فخرج الرئيس يأمر الجيش بحماية الشركات الاستعماريّة من غضب النّاس.
والسؤال اليوم:
هذا الوضع صار معلوما للجميع، وهو معلوم للجيش: قادته وضبّاطه وجنوده. فهل سيقبلون بحماية المستعمر وقتل أبنائهم؟ خاصّة وأنّ الشباب الثائر في تونس خرج يردّ على خطاب الرئيس المهزلة بمزيد من الاحتجاج والغضب بما يعني أنّهم لن يستسلموا ولن يفرّطوا في بلادهم للمستعمر ينتهكها.
هل سيقبل الجيش بالدّور الذي سطّره المستعمر؟ المستعمر يريد أن يجعل في البلاد مناطق "خضراء" يحرسها الجيش وتضمّ مقرّات الحكومة والإدارة ومنابع الثروة والإنتاج التي تسيطر عليها الشركات. ويترك باقي البلاد لثائرين ينفّسون عن أنفسهم بالاحتجاج أو بالفوضى.
بقلم: محمد الناصر شويخة*
* رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع