الجميع يعرف أن الفصائل الجهادية في أفغانستان ألحقت هزيمة مدوية بالاتحاد السوفياتي، القطب الدولي المنافس للقطب الأمريكي يومذاك؛ فالترسانة النووية الهائلة للاتحاد السوفياتي عجزت عن منع سقوطه المدوي أمام عزيمة القتال والتضحية الصلبة لمجاهدي أفغانستان، الذي استقطب جهادهم، يومذاك، أفئدة الأمة ليس فقط على المستوى العاطفي بل العملي أيضا، إذ التحق بالجهاد في أفغانستان الآلاف من الشباب المسلم الذي يتحرق لنصرة دين الله والجهاد لإعلاء كلمة الله. وفعلا فقد أحيا الجهاد في أفغانستان روح الجهاد في أوساط المسلمين. ولكن هذا الحلم الجميل سرعان ما تبخر وتحطم بسبب غياب المشروع السياسي الجامع الذي يجمع صفوف المجاهدين فيقوموا ببناء نواة الدولة الإسلامية في أفغانستان التي تطبق شرع الله كاملا فيها، كما تعمل لضم سائر بلاد المسلمين إليها. بل انقلب إلى اقتتال داخلي في صفوف "المجاهدين" ليتحالف بعضهم مع أمريكا، سواء مباشرة أو عبر أدواتها في باكستان والسعودية، والاستقواء بها ضد إخوانهم المجاهدين.
فهل يتعظ الثوار في سوريا من هذه التجربة الأليمة، فيستخلصوا منها الدروس والعبر قبل فوات الأوان؟
نطرح هذا التساؤل على خلفية الانتصار الأخير في كسر حصار حلب، وما سبقه من إعلان جبهة النصرة سابقا عن فك الارتباط بالقاعدة، ثم ما تلاه من جدالات ساخنة حول المشروع السياسي القادم لجبهة فتح الشام، وهل سيكون استمرارية لنهج القاعدة السابق أم بداية للتدجين في بوتقة الحل السياسي الذي تعمل أمريكا على فرضه في الشام. وفي هذا السياق نفهم ترحيب لبيب النحاس، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة أحرار الشام، في مقابلة نشرتها جريدة الحياة اللندنية، "ببوادر التغير في خطاب "فتح الشام" والصبغة السورية التي بدت واضحة فيه منذ إعلان الجبهة"، ودعا إلى استيعابهم "في مشروع وطني ثوري يجب أن يكون أولوية للجميع"، ولكنه نبه إلى أهمية أن تتبع هذه الخطوة، الأولية، "خطوات عملية تثبت أن فك الارتباط ليس تنظيميا فقط"، أي أن فك الارتباط بالقاعدة يجب أن يعني تعديلا في النهج والمشروع الفكري والسياسي لجبهة النصرة سابقا وجبهة فتح الشام حاليا.
وقد نشرت جريدة "الشرق" القطرية حوارا أجرته مع حسام الشافعي المتحدث الرسمي باسم "جبهة فتح الشام"، كان واضحا في أجوبته الحرص على أن مشروع جبهة فتح الشام ينحصر ضمن الحدود الوطنية لسوريا؛ ويعد هذا الموقف الجديد استجابة لتمنيات النحاس، والمروجين لمقولة الحل السياسي تحت سقف سايكس بيكو، وبالتالي فهذه أولى بوادر الابتعاد عن الخطاب الإسلامي الأممي (أي الأمة الإسلامية الواحدة). وكما استحى النحاس، في مقابلته، من الجهر بتطبيق الشريعة أو أي تلميح بأن الهدف هو إقامة الدولة الإسلامية، فكذلك تجاوب الشافعي بالابتعاد عن الألفاظ والمصطلحات "المثيرة للجدل" أو المثيرة لغضب القوى الاستعمارية، وأدواتها من الأنظمة العميلة، فقد كرر إجابته أكثر من مرة أن الهدف هو "خياراتنا قبل حصار حلب وبعد فكه، هو الاستمرار في قتال نظام بشار الأسد وحلفائه، حتى إسقاطه كاملا وتحرير أرض الشام بعون الله"، ولم يتطرق لا من قريب ولا من بعيد لتطبيق الشريعة ولا لإقامة الدولة الإسلامية.
أما النحاس فقد أوضح أن انسحاب أحرار الشام من مؤتمر الرياض كان شكليًا، أو تكتيكيًا، وأكد "نحن لم نبتعد عن العملية السياسية وعملنا على لعب دور إيجابي من خارج هيئة التفاوض رغم أننا لم نحضر يومًا في جنيف"، فالأحرار مشاركون بشكل فعال في كواليس مفاوضات جنيف وما يتفرع عنها.
ومن المواقف المثيرة التي أعلن عنها النحاس في المقابلة المذكورة قوله، على خلفية كسر حصار حلب، إنه "لا بد من فرض واقع عسكري يجبر نظام الأسد على القبول بحل سياسي يحقق تطلعات الشعب السوري". فالواقع العسكري، أي تحقيق انتصارات مهمة ميدانية، تسمح باستئناف مفاوضات جنيف المتعثرة. وإلى مثل هذا ذهب أسعد الزعبي في تصريحه، الذي نقله موقع الدرر الشامية، في 6/8/2016، "أكد رئيس الوفد السوري المعارض في مفاوضات جنيف العميد أسعد الزعبي أنه على الوفد الانتظار بعض الوقت حتى تحرر مدن كبرى في سوريا على أيدي فصائل المقاومة السورية قبل العودة للتفاوض مع نظام اﻷسد وحلفائه".
فعند النحاس والزعبي وأمثالهم، فإن العبور إلى جنة الحل السياسي يمر فوق جثث وأشلاء شهداء الإجرام الأسدي - الروسي - الإيراني المغطى بدعم أمريكي كلي، وفي هذا السياق يريدون توظيف الانتصار الأخير لقوات الثوار في معركة حلب. فهم يريدون ذريعة تمكنهم من العودة إلى حضن مفاوضات جنيف!! فالنحاس يصرح دون مواربة أنه لا بد من تقدم عسكري يجعل الأسد يخضع لمنطق المفاوضات. ولكنه لا يلبث أن يناقض نفسه، فإذا كان "بقاء الأسد ومؤسساته الأمنية والعسكرية أمور غير قابلة للتفاوض"، كما يقول في المقابلة، فكيف يصح عنده أن الأسد سيقبل بالتفاوض على نهاية حكمه؟ والسؤال نفسه يطرح على السيد الزعبي، الذي سبق أن صرح مرارًا بأن الأمم المتحدة شريكة في التآمر على شعب سوريا، فما باله إذن يستعجل العودة إلى أحضان العم سام في جنيف، مع علمه القطعي أن العم سام هو الذي منع تقدم الثوار في معركة دمشق وفي معركة الساحل؟!
وهكذا نجد أن التاريخ يعيد نفسه أو يكاد: ففصل الجهاد في أفغانستان الذي توج التضحيات الجسام للمجاهدين وأنصارهم بهزيمة ساحقة مذلة ومهينة للدولة العظمى يومذاك، ختم بتنازع قادة الفصائل فيما بينهم وصولا إلى التعاون مع العدو الأمريكي وتمكينه من احتلال أفغانستان التي ارتوت هضابها وجبالها بدماء الشهداء الزكية، والذين قضوا نحبهم طالبين مرضاة الله ونصرة دينه، وتدنيسها بحثالة اليانكي الأمريكي.
آجلا أم عاجلا ستفرض وقائع الثورة في سوريا على الجميع كشف أوراقهم، وحقيقة مواقفهم تجاه ما يسمى بالحل السياسي المزعوم. فبعض المتحذلقين من أصحاب مقولة "تقاطع المصالح" و"فقه الواقع" و"فقه النوازل" لا يستحون من الدعوة إلى تقبل ضغوطات الواقع، لتبرير التقاعس عن الالتزام بحكم الله. وما زال هؤلاء يرددون شنشنة سبق أن سمعناها من قبل، لجهة لزوم التذاكي والمناورة على القوى الاستعمارية الغادرة، فلا داعي لإسماعها ما تكره أي التصريح بتطبيق الشريعة، بل الواجب، عندهم، إحسان فن المناورة والتحايل باستعمال الألفاظ المنمقة الفضفاضة التي لا تفصح عن الحق وتغمغم بالباطل، وكل هذا وذاك في محاولة صفيقة لكسب ود أعداء الله ورسوله، والتماس لسراب موهوم، سراب أن يقبل العدو الكافر بنا بديلا عن عميله الساقط بشار الأسد، كما روّج لذلك لبيب النحاس في مقاله الذي نشره في الواشنطن بوست بتاريخ 10/7/2015 (راجع مقالي في عدد الراية 22/7/2015).
ونختم بالقول إن على المخلصين في حركة أحرار الشام أن يعتصموا بحبل الله ويتبرؤوا من حبال البشر والشيطان، وأن يستمدوا أسباب النصر من رب الأرباب وليس من العبيد فضلا عن الأعداء.
ونذكر أهلنا في سوريا بقول الحق سبحانه ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾ وقوله ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
* مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع