إذا تدبرت القرآن الكريم وتصفحت عبر السور لتبحث عن سورة كاملة عن النظام الاقتصادي في الإسلام لن تجدها. وكذلك لم يصدر سيدنا محمد e بيانات محددة، ولم يقدم الخطب أو الإعلانات العامة التي تضمنت كل ما يتعلق بما يمكن أن نطلق عليه اليوم الهيكل الاقتصادي. فلقد أنزلت النصوص التي تتضمن إشارات إلى القضايا الاقتصادية والمالية، على مدى ثلاثة وعشرين عاماً موزعة بين آيات كثيرة وأحاديث وفيرة.
وفي كثير من الأحيان، كانت تتم الإشارة إلى مسألة اقتصادية تتعلق بحادثة تتطلب استنباط قاعدة أو حكم شرعي من نوع ما. مثال ذلك، الحكم الشرعي بخصوص ملكية الأرض الخراجية التي فُتحت عنوة، نزل مقترناً بغزوة خيبر. وبالتالي فإن الصورة الكاملة للنظام الاقتصادي تأتي من الآيات في القرآن الكريم، ومن أقوال رسول الله e، ومن الأحكام على وقائع محددة. وهناك أربع قواعد رئيسية تعتبر مقومات ضرورية للنظام الاقتصادي في الإسلام.
أولا: مفهوم الرزق ودوره في الاقتصاد الإسلامي
ومفهوم الثروة، أو الرزق في الإسلام، هو مفهوم ضروري لبلورة واقع النظام الاقتصادي في الإسلام. ما هو الرزق؟ ومن هو الرزاق؟ في الإسلام الرزق من عند الله تعالى وهو سبحانه وحده الذي يحدد كمية الثروة التي يمكن للإنسان أن يكسبها طوال حياته. فالإنسان يسعى في هذه الحياة ليكسب فقط ما كتبه الله تعالى له من رزق لا أقل ولا أكثر. ولا يعلم الإنسان ما حدده الله تعالى له من رزق، فهو يكدح ليحصل على ثروة، ومن الضروري حين يحصل على الثروة أن يؤمن بأن الله تعالى هو من خصص هذه الثروة له. وكان لا بد أن يرسخ هذا المفهوم في أذهان المسلمين لعدة أسباب. أحدها أن الإسلام أراد للناس العيش في مجتمع يسوده مفهوم التواضع بالذات عند من أصبح من الأغنياء والأثرياء. فمعرفة أن الرزق من عند الله تعالى يزيل شعور الإنسان بالغرور والأنانية. وثانياً، يريد الإسلام أن يبني مجتمعاً سخياً كريما، وهذا ضروري جداً للتعامل مع الفقراء. وثالثاً، سوف تكون هناك حاجة إلى أن ينفق المسلمون طواعيةً، أكثر مما هو مطلوب منهم، من قبل قوانين الدولة. رابعاً، الدولة الإسلامية ستواجه حروبا عدة عندما تولد، ما يعني أن الدعم المادي سيكون مطلوباً من قبل من لديهم وفرة من المال.
وبلغت الآيات التي تشير إلى أن الرزق من عند الله تعالى في القرآن الكريم أكثر من مائة آية مثل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [الروم: 40]. وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو﴾ [فاطر: 3].
وعليه فإنه من صميم العقيدة الإسلامية أن يعتقد المسلم أن الرزق الذي يكتسبه الإنسان في حياته هو من عند الله تعالى فقط وليس بيده هو. لذلك حينما يطلب منه أن ينفق ثروته بأمر من الله تعالى، سيمتثل بدون تردد. وقد بين القرآن الكريم أن امتناع الكفار عن إطعام المسكين سببه هو رفضهم لهذا المفهوم، فهم لم يقبلوا أن الثروة التي اكتسبوها هي رزق من عند الله تعالى بلا حول ولا قوة منهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 47]
وبالتالي فإن مفهوم الرزق في الإسلام هو الذي يعطي المسلم الدافع للإنفاق امتثالاً لأوامر الله تعالى، ويضع أساساً للقيم العليا والسموِّ لدعم الأنظمة الاقتصادية والمالية. ومن دون هذه القيم العليا المتينة، سيفشل النظام الاقتصادي حتما مهما كان متطوراً. ولدينا مثال واضح في النظام الرأسمالي، حيث انعدم الاعتراف بالقيم والمُثل العليا، والمبدأ الرأسمالي في طريقه للانهيار حتما.
بينما كان القرآن الكريم يرسخ القيم الراقية الضرورية والتي ستدعم النظام الاقتصادي، كان أيضاً يفضح النظام الفاسد الذي يعيش عليه مجتمع مكة. وهذا الفساد كان واضحاً في نظام مكة الاقتصادي حيث ورد في سورة الفجر: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾. ما يعني أن الإسلام يسعى لبناء مجتمع وأنظمة راقية ولن يسمح أن يكون في هذا المجتمع جشع، أو تجاهل للمساكين والأيتام، أو تراكم للثروة عند الناس حباً في جمع المال فقط.
والإسلام منذ بدايته كان يؤسس لنظام اقتصادي لا يسمح بأخذ الفائدة أو الربا. وقبل أن يكتمل نزول الأحكام الشرعية في حرمة الربا، كان هناك تركيز شديد في القرآن الكريم على أن التعامل بالربا وسيلة مرفوضة لزيادة الثروة. وبين أن الربا يؤدي إلى زيادة ثروة شخص على حساب ثروات الآخرين. والربا في جوهره يؤدي إلى تنمية المال دون أن يقابل ذلك نمو في الإنتاج، والقرآن الكريم قد ذمَّ المعاملات الربوية ومدح التصدق ومساعدة المحتاجين ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُواْ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾. وفي مقابل الربا وعد الله تعالى من يمنح قرضاً حسنا لمساعدة ودعم الآخرين، بأن يضاعف له الحسنات ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾.
ثانيا: وفرة الموارد
وعلى عكس قاعدة "ندرة الموارد" التي يروج لها المبدأ الرأسمالي، فإن الإسلام يؤكد على قاعدة "وفرة الموارد". فقد تكرر مفهوم أن الله خلق وفرة من الموارد وخلق فيها منفعة للناس، في مواضع كثيرة في القرآن الكريم. مبينا أن الموارد الأساسية في العالم ليست نادرة، وأن الله تعالى خلق فيها الكفاية وأكثر لتلبية حاجة جميع الناس للاستمتاع بها. مذكرا على الدوام أن هذه الموارد قد رزقنا بها الله تعالى، ليستفيد منها الناس ويستغلوها استغلالاً حسناً ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
وفي السياق ذاته، يُذكّر القرآن الكريم بوفرة الموارد التي خلقها الله تعالى في البحار، والمحيطات، والأنهار. وهذه الموارد تشتمل على الأسماك، والأحجار الكريمة، والقدرة على أن يبحر الإنسان بالسفن في مياه البحار ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. وفي إشارة إلى حقيقة أن هذه الموارد، أو غيرها، لن تنقص أو تنضب في أي وقت من الأوقات؛ يقول الله تعالى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
يُتبع بإذن الله
رأيك في الموضوع