ثالثا: أما أن كل نظام لم يشرعه الله طاغوت ونظام جاهلي، فإن الكتاب والسنة أمرا بشكل جازم قاطع بتحكيم شرع الله في كل شأن من شئون الحياة، وجعل القرآن كل نظام لا يحتكم لشرع الله نظاما جاهليا وطاغوتا يحرم التحاكم إليه، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 48-50] ولو كان الأمر متروكا لرغبات الناس لما كانت النظم التي تواضع عليها الناس لتوصف بالجاهلية والطاغوت، ولكن الله وصفها بذلك وبلغ الأمر بأن اعتبر الحيد عن حكم الله مثقال ذرة اتباعا للأهواء وكفى به مفسدة! هذا بالنسبة للحكم، فهذه الآيات تدل دلالة قاطعة على أن الحكم إنما يكون بما أنزل الله، وأن الرد لا يكون إلا لله وللرسول، أي لكتاب الله ولسنة رسوله e، وأن الحكم بغير ما أنزل الله حكم بالطاغوت والجاهلية، وأن الاحتكام إلى الطاغوت أو إلى الجاهلية محرم، وأن من لم يحكم بما أنزل الله إما كافر أو فاسق أو ظالم، وأن الاحتكام إلى منهج الله تعالى إنما يكون في كل أمر يشجر بين الناس، وأن من يتحاكم إلى الطاغوت فإنما إيمانه زعم لا يتحقق في الواقع،
رابعا: أما أن الخلافة نظام فرضه الله تعالى وليس من صنع البشر، فعليه الأدلة التالية:
أ. إن الإسلام لم يكتفِ بأن نهى عن نظم الحكم المخالفة لنظامه، وعن الاحتكام إليها واعتبارها جاهلية وطاغوتا، وإنما بين أن نظام الحكم نظام فرضه الله ولم يترك للبشر أن يصنعوه أو يتواضعوا عليه!
ب. تقوم أنظمة الحكم على تشريعات وقوانين تبين شكل الدولة وصفتها، وقواعدها وأركانها، والأساس الذي تقوم عليه، وتضبط العلاقات بين الراعي والرعية وبين الناس فيما بينهم، وتبين الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي ترعى الشؤون بمقتضاها، وتحدد مفاهيم السلطان والسيادة والطاعة وما شابهها، وتحدد الدستور والقوانين التي تطبقها، وتفصل في أحكام الخروج على تلك الأحكام وعلى الدولة، وتفصل في طريقة اختيار للحاكم، وصلاحياته، وأجهزة الحكم والإدارة في الدولة، وبالنظر في الإسلام نجده حدد مفاهيم دقيقة تفصيلية في كل هذا.
فقد نزلت آيات تفصيلية في التشريع الحربي والجنائي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعاملات والقضاء وغيرها، وكلها أُنزلت للحكم بها ولتطبيقها وتنفيذها. وقد طُبقت بالفعل في الواقع العملي أيام الرسول e، وأيام الخلفاء الراشدين، ومن أتى بعدهم من حكام المسلمين. مما يدل دلالة واضحة على أن الإسلام نظامٌ محدد للحكم والدولة، وللمجتمع والحياة، وللأُمة والأفراد. كما يدل على أن الدولة لا تملك الحكم إلا إذا كانت تسير وفق نظام الإسلام. ولا يكون للإسلام وجود إلا إذا كان حياً في دولة تُنفذ أحكامه. فالإسلام دين ومبدأ والحكم والدولة جزء منه، والدولة هي الطريقة الشرعية الوحيدة التي وضعها الإسلام لتطبيق أحكامه وتنفيذها في الحياة العامة. ولا يوجد الإسلام وجوداً حياً إلا إذا كانت له دولة تطبقه في جميع الأحوال، كما يدل دلالة قاطعة على أن الإسلام حدد بالتفصيل شكل نظام الحكم وتفصيلاته، وطبقها واقعا عمليا في الدولة التي أقامها النبي eفي المدينة ومن ثم في دولة الخلافة من بعده، مما يسقط كل شبهة تقوم على أن الإسلام إنما ترك تحديد تلك التفصيلات لكل عصر وزمان ولعقول الناس وأهوائهم.
ج. وقد أقام الرسول eالدولة الإسلامية في المدينة وبين أجهزتها ونظامها، فعين الولاة، والقضاة، والمعاونين، وأقام نظام الشورى، مما يدل دلالة واضحة على أن شكل الدولة الإسلامية ونظامها تشريع رباني، وأن الأحكام نزلت ونزلت معها طريقة تطبيقها، ولم تترك الأمر لأهواء الناس وما تعارفوا عليه!
د. خطاب الله تعالى لرسوله eوهو خطاب لأمته بالحكم بما أنزل الله، فالأحكام التي أنزلها الله، مثل الأحكام المتعلقة بالنظام الاقتصادي أو الاجتماعي أو نظام الحكم والقضاء والعقوبات إنما نزلت ليتحاكم إليها الناس، والله تعالى فرض التحاكم إليها على الناس إلى قيام الساعة، فالحكم بما أنزل الله لا يكون إلا وَفْقَ ما شرع من تنظيمات أي عبر دولة الخلافة ولم يترك الناس هملا سدى بلا بيان يبين لهم كيف يحكمون بما أنزل الله!
ه. نفت آيات من القرآن محكمة قطعية الدلالة، تعلقت بالحكم بما أنزل الله والتحاكم لشرعته الإيمان عمن فعل خلاف ذلك، وقد ورد في كتب التفسير أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنكاراً له ولصلاحيته يكفر لأنه ينكر حكماً قطعيّ الثبوت قطعي الدلالة. ومن يحكم بغير ما أنزل الله مع اعترافه بأنه الحق ولكنه يتبع الهوى أو أوامر جهات أخرى فإنه بين ظالم وفاسق. وإذا طبقنا هذه الأوصاف على الخليفة فإنها لا تنطبق عليه لأن من شروط نصب الخليفة أن يكون مسلماً وليس كافراً، وعدلاً وليس فاسقاً ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾.
و. وردت آيات قطعية تذم وتحرم التحاكم لغير شرع الله، وجعلته جاهلية وطاغوتا أمرنا بالكفر به.
ز. وردت آيات تأمر بتنصيب ولي أمر يستحق الطاعة مقابل تطبيق الشريعة في الأمة، فالأمر بطاعة ولي الأمر أمر بتنصيب ولي الأمر، وقد رتبت الآيات والأحاديث الطاعة بالتزام ولي الأمر بتطبيق الشريعة، فهي طاعة لولي أمر مخصوص لا طاعة لأي حاكم يحكم بالطاغوت كما هم حكام اليوم نواطير الاستعمار أعداء الأمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾. إلى أن قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾. فهذه النصوص تبيّن أن الفكر السياسي الإسلامي يقوم على أساس أن السيادة للشرع وليست لجهاز الحكم، وبناء على ذلك فإن طاعة ولي الأمر وخليفة المسلمين مرتبطة بطاعته لشرع الله تعالى، وقد روى مسلم في كتاب الإمارة عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ e يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ: «وَلَوْاسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُوَأَطِيعُوا» فاشترط للطاعة أن يقود بكتاب الله تعالى. يُتبع
رأيك في الموضوع