ذكرت وسائل الإعلام أن حملة مداهمات نفذتها قوات جهاز الأمن الاتحادي الروسي في 12 أيار/مايو 2016 في بلدة باشيساراي في جزيرة القرم. وقد اعتقلت قوات الأمن 4 مسلمين: وهم ظفري أبسيتوف ورمزي ميميتوف ورستم أبيلتاروف وأنور ماموتوف. وقالت المدعية العامة في جزيرة القرم، نتاليا بوكلونسكايا، إن جميع المعتقلين هم أعضاء في حزب التحرير المحظور في روسيا كمنظمة إرهابية.
وهذه الاعتقالات ليست هي الأولى من نوعها التي يتم فيها اعتقال المسلمين بتهم مماثلة: ففي شهر شباط/فبراير اعتُقل 4 أشخاص من سكان الأسطة ويالطا وهم: أمير ياسين كوكو وأنور بكيروف ومسلم علييف وفاديم سيروك، وفي شهر نيسان/أبريل اعتُقل مسلمان آخران هما: أرسين دزيبروف ورينات عليموف. هذا بالإضافة إلى أنه في بداية عام 2015 تم اعتقال 4 مسلمين من سيفاستوبول (أقيار) وهم: رستم فياتوف ورسلان زيتولاييف ونوري بريموف وفيرات سيوفولييف. وهكذا، فقد تم اعتقال 10 مسلمين في عام 2016 بتهمة الانتماء لحزب التحرير وما مجموعه 14 رجلًا منذ ضم روسيا لجزيرة القرم. ويواجهون جميعًا أحكامًا بالسجن قد تصل إلى 20 عامًا، وفي بعض الحالات حتى السجن المؤبد.
وتجدر ملاحظة أن أعمال الآلاف من أعضاء حزب التحرير كانت "قانونية" تمامًا عندما كانت جزيرة القرم تخضع للنظام الأوكراني وذلك لأكثر من 20 عامًا. وخلال تلك الفترة قام حزب التحرير في أوكرانيا بتنظيم الكثير من الفعاليات العامة؛ مؤتمرات ومحاضرات وندوات واحتفالات وتنظيم منتدى دولي على نطاق واسع، والذي قد عقد في سيمفيروبول (أقميسدجيت) في عام 2013. وقد شارك أعضاء الحزب وممثلوه الرسميون عدة مرات في برامج بُثَّت عبر الإذاعة والتلفزيون.
في الواقع، من الجدير بالذكر، أنه منذ بداية عمل الحزب في الجزيرة، رحب مسلمو القرم بحزب التحرير بحرارة وقد أقبلوا على أفكاره بإخلاص كبير واحتضنوه. وهذا أمر طبيعي، لأن التاريخ الصعب لهذا الشعب البطل هو أفضل مثال على المعاناة التي حلت بالأمة الإسلامية من خلال إضعاف وهدم دولة الخلافة. ففي البداية قامت روسيا القيصرية بضم جزيرة القرم في عام 1783 وقد تبع ذلك مجزرة ضد المسلمين وتم تهجيرهم بشكل جماعي من الجزيرة. وبعد ذلك في عام 1944 قام ستالين بترحيلهم حيث توفي نصف شعب تتار القرم أثناء ذلك. ومن ثم كانت عودتهم المؤلمة إلى بلادهم من المنفى ونضالهم في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت لنيل حقوقهم، وخلال هذه الفترة عايش تتار القرم أصعب الظروف. وهكذا، أصبحت بلاد القرم أرضا خصبة للدعوة إلى استئناف الحياة الإسلامية، واليوم فأنت لا تستطيع حتى أن تتخيل شعب تتار القرم دون دعوة حزب التحرير التي أصبحت جزءا مهمًا من حياته وراسخة فيها بجذور عميقة، وقد أحيت هذه الدعوة في الناس قوة الإسلام وعظمته.
وبالنظر إلى كل هذه الحقائق، فإن إعلان روسيا عن أن الآلاف من مسلمي القرم بأنهم إرهابيون دفعة واحدة بعد أن قامت بضم جزيرة القرم يبدو سخيفًا. وقد حدث هذا بعد عقود من العمل القانوني، وخلال ذلك فإن السلطات الأوكرانية قد ذكرت عدة مرات أنه لا يوجد أية مزاعم ضد أنشطة حزب التحرير، وفي الواقع، فإن هذا ليس مستغربًا، لأن الحزب لا يقوم بأعمال مادية بوصفها ليست الطريقة الشرعية لتغيير الأنظمة في البلدان غير الإسلامية.
ومع قدوم روسيا فقد بدأت الاعتقالات في صفوف المسلمين تقريبًا على الفور - في البداية سيفاستوبول (أقيار)، وبعدها يالطا والأسطة، والآن باشيساراي - وهي العاصمة السابقة لولاية جزيرة القرم عندما كانت جزءا من الخلافة العثمانية. وقد تميزت الاعتقالات الأخيرة في باشيساراي بحدث مهم: فقد نزل مئات المسلمين في باشيساراي إلى الشوارع وطالبوا قوات الأمن الروسية بالإفراج الفوري عن إخوانهم وأبنائهم، وقد قاموا بالتكبير ورددوا "لا إله إلا الله" و"حسبنا الله ونعم الوكيل". وقد أرعب ذلك الروس المجرمين على الرغم من وجود فريق من القوات الخاصة المدجج بالسلاح، وقد انتشر فيديو لهذه الأحداث في جميع أنحاء العالم وألهم الناس في عدة دول. من المهم أن ندرك أن المراقبين في جزيرة القرم قد لاحظوا أن الضغط المتزايد الذي تمارسه السلطات الروسية على حملة الدعوة الإسلامية قد تسبب بتأثير عكسي. فالناس لن يديروا ظهورهم ويتخلوا عن إخوانهم وأبنائهم، بل على النقيض من ذلك، فقد وقف الناس معهم بكل حزم، وثبتوا في الدفاع عنهم وطالبوا بوقف القمع بشكل فوري. وعلاوة على ذلك، فقد برزت ظاهرة أخرى: فقد ازداد إقبال تتار القرم على الإسلام بشكل كبير جدًا وذلك مباشرة بعد ضم روسيا لجزيرة القرم، فقد أسرع الناس بالعودة إلى جذورهم الإسلامية، وأصبحت المساجد تمتلئ بالمصلين، والآن أصبح الناس يتقبلون الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية بحماس أكبر. ويمكننا أن نستنتج أن هذه الأحداث لم تكن سوى محاولة روسية أخرى فاشلة لإبعاد تتار القرم المسلمين عن الإسلام. ويبدو أن بوتين قد نسي التاريخ ونسي جهود كاثرين الثانية العقيمة ومحاولات ستالين لكسر الإرادة الراسخة لهذا الشعب المسلم. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال :30]
والآن لا يمر يوم بدون تقارير لوسائل الإعلام الروسية عن تلفيق آخر ضد أعضاء حزب التحرير في هذه المنطقة أو تلك، وهو ما يشكل اهتمامًا حقيقيًا من المجتمع بالحزب نفسه وبأفكاره. وستجد كمًا كبيرًا من البرامج التلفزيونية والمقالات والمقابلات حول أعضاء حزب التحرير الذين يتم الاعتراف بأنهم سجناء سياسيون. والسؤال الذي يطرح نفسه بصورة حادة بين الناس: "ما هو المشروع المدهش الذي يدعو له حزب التحرير والذي بسببه تقوم روسيا بالزج بكل هذه القوات لمحاربة دعاة سلميين؟". ولذلك، فإن البديل المعقول الوحيد الذي يمكن للكرملين القيام به هو إلغاء قرار المحكمة السخيف الذي يصنف حزب التحرير كمنظمة إرهابية والإفراج الفوري عن جميع أعضاء حزب التحرير الذين تمتلئ بهم السجون الروسية.
بقلم: محمد منصور
رأيك في الموضوع