إن أهم قضية يعالجها أي نظام اقتصادي هي قضية الملكية، بمعنى من له الحق في ملكية الأشياء في المجتمع. فالرأسمالية ترى أن الأشياء في المجتمع يملكها الأفراد، ولا يوجد في أساس المبدأ الرأسمالي ملكية خاصة بالدولة أو بعموم الناس. وعلى النقيض تماما فإن المبدأ الاشتراكي يرى أن كل شيء يجب أن يكون مملوكا من قبل عموم الناس وليست هناك ملكية خاصة بالأفراد أو بالدولة. بينما جعل الإسلام الملكية في ثلاثة أصناف هم الأفراد والدولة وعموم الناس. أما ملكية الأفراد فقد ثبتت بأحكام كثيرة منها أحكام الميراث التي جعلت نصيبا للأفراد في مال الموروث، وأحكام الأجر على العمل والمنفعة، وأحكام الصيد والشركات وغيرها كثير. أما ملكية الدولة فقد ثبتت بأحكام كثيرة منها الجزية، وخمس الركاز، والخراج، والفيء والأنفال. وأما الملكية العامة فقد ثبتت بأحكام اشتراك الناس بالماء والكلأ والنار، والمعادن المتوفرة بشكل كبير كالحديد والمنغنيز وغيرها.
فالحاصل أن الإسلام يرى أن المجتمع له مكونات ثلاثة كل واحدة منها لها احتياجاتها الخاصة والتي لا بد أن تلبى وتشبع طبيعيا من مال تملكه هي، ولا تضطر إلى سلب غيرها ما يملك، وهذه المكونات هي أفراد الناس أي السكان، والدولة التي تقوم على رعاية شؤون الناس، والناس بوصفهم الجماعي وليس الفردي. فالفرد بوصفه إنساناً يعيش في المجتمع له حاجات خاصة كالأكل والشرب والسكن، وهذه حاجات إنسان بوصفه إنساناً لا بد من إشباعها. فجعل الإسلام للفرد الحق في أن يتملك ما يقوم بحاجته وحاجة من يعول. والدولة بوصفها راعية لشؤون الرعية لا بد لها من مال تستعمله للقيام بواجبها تجاه الرعية وحماية الرعية والبلاد من الأخطار الداخلية والخارجية، والقيام على أمن الناس وسلامتهم. فجعل الإسلام للدولة الحق في تملك ملكيات معينة تعود عليها بالمال اللازم للقيام بواجباتها دون الحاجة لأموال الأفراد التي فرضها الله تعالى لهم. وكذلك فإن هناك حاجات للرعية لا يختص بها فرد دون عينه فهي حاجات للرعية بوصفها جماعة من الناس وليس بوصفهم الفردي. وذلك مثل المراعي والغابات والأنهار وشواطئ البحار والطرقات ومراكز التعليم والتطبيب وغيرها. والإسلام قد خص الجماعة بملكيات خاصة بالجماعة تؤدي للحفاظ على الجماعة وعدم تفرقها والبقاء عليها دون الحاجة لمال الأفراد أو مال الدولة.
والملكية العامة تعرف بأنها إذن الشارع للجماعة في الانتفاع بالعين. وهذه الأعيان تتحقق في ثلاثة أنواع هي الأعيان التي تعتبر من مرافق الجماعة بحيث إذا لم تتوفر للجماعة تفرقوا في طلبها، والمعادن التي لا تنقطع، والأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها. فعن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». ما يعني أن الماء (كالأنهار والبحار وشواطئها والأحواض المائية) والمراعي الشاسعة في الجبال والسهول والمروج والغابات، والنار بمعنى مصادر النار كالغابات الخشبية ومناجم الفحم والغاز والنفط كلها ملكية عامة، أي تكون هي أو ما ينتج عنها من مال مملوكة لجميع أفراد الرعية سواء بسواء ويمكَّن الجميع من الانتفاع بها مباشرة أو من خلال تنظيم معين تقوم به الدولة. أما المعادن التي لا تنقطع أي التي تتوفر بشكل لا ينفد فقد روى الترمذي عن أبيض بن حمال «أنه وفد إلى رسول الله e فاستقطعه الملح فقطع له، فلما أن تولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد، قال: فانتزعه منه» والماء العد الذي لا ينقطع، شبه الملح (وهو معدن) بالماء العد لعدم انقطاعه. ما يدل أن مثل هذا المعدن كمناجم المعادن المختلفة كالحديد والنحاس والفوسفات واليورانيوم والذهب وغيرها كلها من الأشياء التي لا يجوز أن تكون مملوكة للأفراد. أما الأشياء التي طبيعتها تمنع أن تكون مملوكة للأفراد فتشمل الطرق وترددات الأمواج اللاسلكية والممرات المائية والجوية ومدارس الدولة ومستشفياتها وجامعاتها فملكية الفرد للطريق أو الممر المائي والجوي ومستوصفات الدولة قد يحرم غيره من الأفراد الانتفاع بهذه الأعيان.
ومن هنا فإن النظام الاقتصادي في الإسلام قد حدد الملكيات كلها وبين أنواعها وفرض لكل ركن من أركان المجتمع ملكيته دون حيف ملكية على أخرى ولا تعدٍّ من طرف على طرف. فلا حاجة في نظام الإسلام الاقتصادي للتأميم من أجل توفير المال للدولة أو الجماعة وليس بحاجة للخصخصة ليحول ملكية عامة لملكية خاصة. فلكل ملكيته ولكل حدوده. وقد رأينا كيف اضطرت الدول تحت نظام الاشتراكية لخصخصة بعض الممتلكات العامة لما تبين لهم أن كثيرا من المنافع يضمحل إنتاجها حين تكون ملكيتها عامة ما اضطرهم إلى نقلها إلى ملكية أفراد ولكن دون ضابط معين أو قانون ثابت يبين ما ينقل من الملكية العامة إلى الخاصة وما يبقى.
وكذلك رأينا دولا في العالم الرأسمالي تنقل ملكيات خاصة لملكية الدولة حين رأوا أن بعض الملكيات يعجز الفرد عن الحفاظ عليها، وأن الدولة لا بد أن تتملك، وهو ما نادت به الرأسمالية الكينيزية بعد الحرب العالمية الثانية حين آلت كثير من المصانع إلى الانهيار وضعف الإنتاج. وكذلك فعلت حكومة الولايات المتحدة إبان الأزمة المالية الأخيرة حين تملكت أجزاء كبيرة من شركات السيارات والبنوك بحجة أنها من الضخامة بمكان ما يستوجب تملكها من قبل الدولة حتى لا تنهار. فالاشتراكية اضطرت للاعتراف بالملكية الخاصة دون ضوابط وإن كان المبدأ ينكرها. والرأسمالية اضطرت للاعتراف بملكية الدولة دون ضوابط وإن كان المبدأ ينكرها.
أما الإسلام فقد أوجد توازنا بين الملكيات الثلاث وضبطها بقواعد واضحة. فلا خصخصة لما هو في أصله عام ولا تأميم لما هو في أصله خاص. والدولة لا تتوغل في أموال الناس عن طريق الضرائب لتنفق على ما هو واجب عليها. أما الدولة في النظام الرأسمالي فإنها تأخذ من أموال الناس ضرائب لتنفق على ما هو واجب عليها. وقد لاحظنا في دول الغرب خاصة أمريكا أن الدولة تنفق في مناطق الأغنياء الذين يدفعون ضرائب كثيرة غير ما تنفقه في مناطق الفقراء خاصة من الأفارقة السود. كما لاحظنا أن كثيرا من الأغنياء خاصة أصحاب الشركات العملاقة يخفون كثيرا من أموالهم تهربا من الضرائب ما يؤثر على عجلة الإنتاج حيث تحرم آلة الإنتاج في الدولة من كثير من الأموال التي تخفى تهربا من الضرائب. وكذلك رأينا في الدول التي تخضع للاشتراكية كيف يقل الإنتاج ويضعف بسبب كبت الدوافع الطبيعية عند الفرد للتملك فيحجم عن الإخلاص في العمل ويقل إنتاجه بشكل ملحوظ.
والخلاصة أن الإسلام أوجد نظاما اقتصاديا مثاليا يوازن فيه بين حاجة الفرد وحاجة الدولة وحاجة الجماعة. بحيث يضمن إشباع حاجات كل فرد بعينه ويمكِّن الدولة من القيام بواجباتها ويحقق للجماعة الأمن والاستقرار والتقدم في كافة المجالات ﴿ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾.
رأيك في الموضوع