أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية فوزا مفاجئا وغير متوقع لائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة بزعامة جان لوك ميلانشون وهزيمة اليمين المتشدد الذي بدا قريبا من الفوز في الجولة الأولى. وبنى الائتلاف حملته الانتخابية على أسس اقتصادية واسعة، إذ تعهد برفع الحد الأدنى للأجر الشهري إلى 1600 يورو وهو ما يفوق 1700 دولار أمريكي، ووضع حد أقصى لأسعار المواد الغذائية الأساسية والكهرباء والوقود والغاز، كما طالب مرارا بوقف الإبادة الجماعية في غزة على حد تعبيره. من جهة أخرى، طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال البقاء في منصبه في الوقت الحالي "لضمان الاستقرار" وذلك بعدما أعلن أتال عن استقالته.
لقد كان واضحا منذ حل البرلمان في التاسع من حزيران/يونيو سعي ماكرون تقديم نفسه على أنه الحل الوسط بين نقيضين، وأنه صمّام الأمان والرُّبّان القادر على قيادة السفينة في ظل تراكم الأزمات. فجاء هذا القرار "المفاجئ" ضمن مناورة سياسية توظف ورقة اليمين المتطرف كفزاعة بعد أن صنعت له مؤسسات سبر الآراء هالة زائفة لا تعكس حقيقة وزنه وحجمه، ليقدم الرئيس نفسه على أنه الحارس لقيم الجمهورية الفرنسية التي ترفض كل أشكال التطرّف والعنصرية، مع أن هذا اليمين المتطرف هو من عاضد جهود حزب النهضة بزعامة ماكرون لإقرار قانون يشدد سياسة الهجرة أشهرا قليلة قبل حل هذا البرلمان!
القضية إذن لا تتعلق باليمين المتطرف الذي يتبادل الأدوار مع النظام بشكل مفضوح، وإنما تتعلق أساسا باليسار المناهض للسياسات الرأسمالية الجائرة (ولو شكليا) والقادر على تحريك الشارع وملء الساحات وقيادة الميدان، وبكيفية استيعاب واحتواء نشاطه، بعد أن أظهر في السنوات الأخيرة قدرة لافتة على استقطاب المهاجرين وعلى ضبط إيقاع الشارع أربكت الحزب الحاكم نفسه وشككت في شعبيته المتآكلة.
هذا الأمر يجعل الدولة العميقة في فرنسا متهيئة لسيناريو صعود اليسار، لأنها تتعامل مع حقيقة وجوده داخل النسيج المجتمعي والنقابي منذ عهد الرئيس السابق وزعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران، كما أنها تدرك خطورة عودة هذا التيار بشكل منتظم وصعوده تحت قيادة جان لوك ميلانشون، خاصة بعد أن قفزت دعوة وقف الحرب في غزة إلى المرتبة الأولى في أولويات حزبه وباتت البوصلة التي تتحكم بتحركه على مستوى حراك الشارع، وداخل المؤسسات الرسمية، وفي وسائل الإعلام. فمن هو هذا السياسي المخضرم الذي صنع المفارقة في الانتخابات الأخيرة؟
دخل الصحفي ميلانشون عالم السياسة في وقت مبكر وتدرج في العديد من المواقع، حيث التحق بـالحزب الاشتراكي الفرنسي عام 1976، وعمل معه خلال معظم حياته المهنية، فعُيّن عام 1981 سكرتيرا أول لمكتب رئيس فرنسا حينها فرانسوا ميتران، وشغل منصب وزير التكوين المهني بين عامي 2000 و2002. غادر الحزب الاشتراكي مُكرهاً سنة 2008، لتأسيس حزب أكثر راديكالية، أطلق عليه "حزب اليسار" الذي تمخضت عنه سنة 2016 حركة "فرنسا الأبية" بعد إنضاج رؤيته في الحكم ونظرته لفرنسا الأبية المتمردة على سياسات الرأسمالية العالمية بزعامة أمريكا. وقد سطع نجم ميلانشون حينما انتخب نائبا بالبرلمان الأوروبي منذ 2009 قبل أن يعاد انتخابه سنة 2014. وكان من أبرز مواقفه التي صدع بها تحت قبة البرلمان الأوروبي رفضه القاطع دخول فرنسا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي لأنه يحاول جرّ دول أوروبا إلى حروب وخيمة العواقب.
وهو يرفض اليوم الحلول التي يمليها الناتو للحرب الروسية الأوكرانية على قادة أوروبا لأنها ستكلفهم الكثير، مقابل ترحيب المستشار الألماني أولاف شولتس بقرار الولايات المتحدة نشر صواريخ بعيدة المدى بشكل منتظم في ألمانيا كخطوة لزيادة الردع ضد روسيا، ضمن تنافس فرنسي ألماني على تحقيق رغبات الناتو ومن خلفه أمريكا.
يدعو ميلانشون إلى عدم اختزال ظاهرة الإرهاب في المهاجرين، وهو مدافع عن حق المسلمين في الوجود بأوروبا بكل حرية، ما داموا غير متورطين في إيذاء أي أحد، كما دعا في مناسبات عدة إلى التفريق بين الإسلام والإرهاب، حتى نُعت بأنه شيخ متعصب. وقد أصبح ميلانشون ظاهرة فريدة من نوعها في المشهد السياسي الفرنسي، حيث يعترف خصومه قبل أنصاره بأنه خطيب مفوّه، قوي الشخصية والشكيمة والحجة وقادر على شد انتباه الجماهير الواسعة لساعات. كما لم يسلم كل رؤساء فرنسا من سهام نقده اللاذع، فكان منتقدا لسياسات ساركوزي (يميني ديغولي) وهولاند (اشتراكي) وماكرون (ليبرالي)، ومتقنا لأسلوب النقد الساخر.
كان أداؤه في المناظرة التلفزيونية مع مرشحي الانتخابات الرئاسية لسنة 2017 مبهرا، فحصل حينها على ما يزيد على 7 ملايين ناخب، ولم ينقصه سوى 400 ألف ناخب للتأهل للجولة الرئاسية الحاسمة التي لم يحصل عليها لرفض مرشحي الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والخضر الانسحاب لصالحه، فكانت طعنة في الظهر من قبل هذه الأحزاب الثلاثة التي تندرج كلها نظريّا في خانة اليسار.
اليوم، فرضت الأحداث الراهنة والأزمات المتراكمة العودة إلى هذا التحالف اليساري لمواجهة تنامي ظاهرة اليمين المتطرف وإنهاء "الماكرونية". وقد حصل هذا اليسار على معظم التصويت من الناخبين في التجمعات السكنية والمدن الكبرى مثل باريس ومارسيليا، واستطاع التعبئة في أوساط الجيل الشاب وكسب أصوات الجالية العربية في فرنسا لصالح الجبهة الشعبية الجديدة التي تشكلت إثر حل البرلمان وتزعمها ميلانشون، ومع ذلك لم تتمكن من الحصول على الأغلبية المطلقة، ويُرجح أن تبقى عاجزة عن التغيير ما دامت لا تستطيع التفكير خارج صندوق النظام الرأسمالي، باستثناء بعض الحلول الترقيعية، لأن الديمقراطية لعبة يتحكم في نتائجها رأس المال.
بقي للدولة العميقة في فرنسا عديد الأوراق لترويض اليسار المتمرد بزعامة ميلانشون، بعد فرض حالة من التعادل السياسي بين الجميع جاءت بها نتائج الجولة الثانية من بينها تشكيل كتل نيابية جديدة، وتفعيل التحالف غير المعلن مع اليمين، وتفكيك الجبهة الشعبية وضربها من الداخل ومراودة زعماء اليسار لإشراكهم في الحكم، وصياغة توافقات مرحلية وإسنادهم بعض الحقائب الوزارية في الحكومة المقبلة وإحراجهم أمام ناخبيهم بعجزهم عن تحقيق وعودهم، وقد تصل إلى حد التهديد بالتصفية الجسدية من قبل اليمين المتطرف. مع أن التوافق وجلب الجميع إلى الوسط هو الحل البراغماتي المعهود منذ عهد ميتران.
ختاما، إن عودة الانسداد السياسي إلى ما قبل حل البرلمان، ووجود المادة 49.3 من الدستور الذي يمكّن من تمرير القوانين دون عرضها على تصويت البرلمان (كما وقع عند تمرير مشروع قانون "إصلاح نظام التقاعد" وما رافقه من جدل واحتجاجات)، وانقسام المجتمع الفرنسي الحاد حول أمهات القضايا، وحتى تلك المحاولات الجادة لتفكيك أزمة الديمقراطية في فرنسا من قبل الفقهاء الدستوريين المناهضين للشعبوية (سواء بصيغتها اليمينية أو اليسارية) والداعين إلى إعادة بناء النص الدستوري بوصفه ميثاق التعاقد الاجتماعي السياسي، فإن هذه كلها مؤشرات على عمق الأزمة الحضارية التي تعيشها الديمقراطية المتآكلة في فرنسا، والتي جعلت من الجمهورية فيدرالية غير معلنة تخضع تدريجيا لأجندة "أطلسية" تطبخ على نار هادئة، وهو ما يحيلنا إلى الأسئلة المصيرية التي طرحها النَّاقد الفرنسي إيمانويل تود مؤخرا في كتابه "هزيمة الغرب".
رأيك في الموضوع