لقد أدى بوتين القسم لولاية خامسة، وبذلك يعتبر أطول رئيس حكم روسيا خلال عقدين وحقق فوزا بنسبة 88% لتكون أعلى نسبة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد أكّد أنه يعارض فكرة الرئاسة مدى الحياة على غرار النظام الذي كان موجوداً في الاتحاد السوفيتي (سابقا). وجاءت تصريحاته خلال اجتماع مع قدامى مقاتلي الحرب العالمية الثانية في سان بطرسبرغ بعد أيام من دعوته إلى إجراء تغييرات دستورية تساعده على البقاء في السلطة بعد انتهاء فترة رئاسته عام 2024.
وبحسب تقارير متعددة فإن طبقة الأوليغارشية في روسيا هي التي صنعت قوة "القيصر"، عبر تمهيد الطريق أمامه نحو السلطة، ودعمه خلال سنوات حكمه من خلف الأضواء. وقد بدأ ظهور الأوليغارشية التي ينظر لها كضامن لقوة بوتين في روسيا فور انهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينات القرن المنصرم، وكانت النواة الأولى لها مجموعة من الأثرياء وذوي النفوذ، ظهروا جراء الانسحاب المفاجئ للقطاع العام من مجالات واسعة، وانهيار القواعد التي تحد من تأثير المال على السياسة. وأبرز هؤلاء في دائرة الدولة العميقة، أركادي روتنبرغ، وأخوه بوريس، وغينادي تيمتشينكو، وثلاثتهم أصدقاء قدماء للرئيس، وكذلك فيكتور فيكسلبرغ، شريك فريدمان في قطاع النفط، وأوليغ ديريباسكا، بارون قطاع المعادن وصهر عائلة يلتسن.
إن مسألة الدولة العميقة وتحكمها في الدول ليست خيالا بل حقيقة يؤمن بها الغرب لقناعتهم أن نتائج الانتخابات قد تأتي بزعيم ضعيف أو غير سياسي أو مشاكس فتبقى تلك الأدوات متحكمة بالدولة وبرامجها وسياستها، والذي يخرج عن المسار بعد فوزه فإن القتل هو المصير، وقد رأينا كيف فضح ترامب دور الدولة العميقة في الولايات المتحدة.
ومعنى إبقاء بوتين في الحكم وعدم تغيير شخصية الرئيس حتى مع تحكم الدولة العميقة هو أن هذا الشخص الذي وجدت فيه تلك القوى الخفية مقومات تحقيق الاستراتيجية، وهذه لا تعتمد فقط على قوة ودقة وصحة الخطط وإنما أيضا هناك أهمية عالية وقصوى لشخصية الشخص الذي ارتبطت به هذه الاستراتيجية وقدرته على تحقيقها، فأحيانا تكون الدولة بحاجة لشخصية متمكنة سياسياً ومنضبطة جدا، وأحيانا تكون بحاجة لشخصية دكتاتورية. وكاريزما شخص الحاكم لها دور كبير في تحقيق الأهداف مع قوة الخطط ودقتها ولو كانت هناك استراتيجية رائعة وارتبطت بشخصية لا ترتقي لها لكانت قوتها نظريا (ورقية) فقط.
وأهم ما جاء في مراسم تنصيبه القصير بموسكو، قال بوتين:
1- إن روسيا لا تستبعد الحوار مع الغرب، لكن "الخيار لهم" لمواصلة العدوان، أو السلام.
2- إن روسيا تواجه تحديات جسيمة، ونفهم أهمية وضرورة الدفاع عن مصالحنا الوطنية على نحو أقوى. كلي ثقة أننا سنتجاوز كل التحديات، وسندافع عن حريتنا وتقاليدنا وقيمنا، ونتوحد جميعاً شعبا وسلطة من أجل هذه الأهداف.
3- تعزيز الشراكة والتعاون مع البلدان التي ترى في روسيا شريكاً موثوقاً به.
4- الحوار حول الأمن الاستراتيجي والاستقرار ممكن، ولكن ليس من منطق الإملاء، إنما انطلاقاً من قواعد الندية.
5- مواصلة العمل لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، وقد شدد بقوله: "علينا أن نكتفي ذاتياً، وأن نفتح مجالات جديدة أمام دولتنا كما حدث مراراً في التاريخ، الذي نتعلم من دروسه دائماً".
إن قراءة أولية لخطابه تظهر نوعين من الرسائل أرادهما بوتين:
أولا: رسالة داخلية وهي أن روسيا تتعرض لتحديات جسيمة ووجودية حسب تعبيراته في كثير من تصريحاته لتبرير أعماله السياسية والدفاع عن مواقفه.
ثانيا: خارجية وهي ذات شقين هما:
1- الصين وبعض دول الجوار لتوثيق العلاقة والصلة، وذكرها (الدول التي ترى في روسيا شريكا موثوقا)، ومحاولة العمل معهم لتعدد الأقطاب.
2- الغرب عموما والرسالة لهم أن روسيا تؤمن بالحوار ولكن من خلال الندية وليس منطق الإملاء والقوة.
والمدقق في رسائله يجدها تعبر عن مدى الضعف الكامن في دولة كانت ذات يوم تهز العالم وترفع الحذاء في وجه الآخرين! لذا حاول التذكير بأن روسيا دولة نووية، فقد ذكرت وزارة الدفاع في بيان نشر على منصة تلغرام أنه "سيتم خلال المناورات اتخاذ سلسلة من الإجراءات للاستعداد ولاستخدام الأسلحة النووية غير الاستراتيجية"، مشيرة إلى أن التمرين الذي ستشارك فيه قوات منتشرة بالقرب من الحدود مع أوكرانيا يهدف إلى "الإبقاء على جاهزية" الجيش. فهي رسالة للغرب وتهديداته، وإن كانت هذه الرسالة محل شك بقدرة روسيا على تنفيذها خاصة وأن خصمها دول الناتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وبعض هذه الدول تملك ترسانة نووية، وهذه حرب ستكون وجودية والكل يدرك مدى خطورة وحساسية الأمر.
وفي الختام: إن الدولة العميقة رأت في بوتين الشخصية القادرة على إنقاذ روسيا من التفتت والضعف والانهيار ومحاولة بقاء روسيا ضمن مجالها الإقليمي على الأقل، أما مسألة الدور العالمي فروسيا غير قادرة على المحافظة على مجالها المحيط بها فكيف تتحدث عن دور عالمي؟! إلا إذا كان الحديث مع قوى أخرى تمتلك الإرادة السياسية والقدرة العملية خاصة في ظل ضعف الدولة الأولى (أمريكا) عالميا، أما روسيا لوحدها فهذا محض خيال. فقد استطاعت الولايات المتحدة إدخال روسيا، بغبائها، نفقا مظلما في حرب أوكرانيا وجعلها محل حرب مدمرة ملهية لروسيا عن لعب أي دور عالمي حقيقي في ظل عقوبات قصوى وعنيفة أثقلت قواها واستنزفتها لأهداف تريدها أمريكا، ويبدو أنها حققت كثيرا منها وليس جميعها.
رأيك في الموضوع