ها قد دخلت الحرب على غزة شهرها السادس بكل وحشية وإجرام، وما زالت مستمرة رغم كل الجعجعات والبهلوانيات والمسرحيات، قتلا وتشريدا وتجويعا وهدما وحصارا، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وبتواطؤ ومشاركة من حكام المسلمين العملاء وقادة الغرب المجرمين الذين لم يتوانوا لحظة عن دعم كيان يهود وإمداده بالسلاح والعتاد والمال والغذاء، وتأييده في خططه وأهدافه الإجرامية بحق غزة وأهلها ومجاهديها، وفوق ذلك يمكرون ويحوكون المؤامرات لعلهم يأخذون بها أكثر مما أخذوا بالحرب والقتل والدمار، في مشهد رسم شريعة الغاب بأقبح صورها، في القرن الحادي والعشرين، قرن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وكل الأكاذيب والورديات الخادعة!
فقد تبخرت مفاهيم حقوق الإنسان والمجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي وهيئة الأمم، ولم تصل حتى إلى مستوى الحبر على ورق، إذ لم يصدر عنهم ما يحفظ ماء وجههم ويخفي قبحهم، ولو على سبيل رفع العتب والملامة، فتلك أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبقية الدول التي تصف نفسها بالعالم الحر، وقفت إما داعمة ومؤيدة بكل وقاحة ليهود، أو مستنكرة على استحياء بعض المآسي الإنسانية دون غيرها من مظاهر الإجرام والقتل، ولسان حالهم تجاه يهود، أن اقتلوا المجاهدين وأبيدوا غزة واسحقوا الشجر والحجر، ولكن مع التخفيف من مشاهد قتل وتجويع الأطفال والنساء إن أمكن وإلا فحقكم أولى من حياتهم!!
أما القرار السياسي عند مصاصي الدماء في كيان يهود وأمريكا، فهو محسوم بأنه يجب إنهاء حركة حماس من قطاع غزة وقتل كل المجاهدين، وإبقاء غزة خاوية لا تقوى على تهديد كيان يهود في المستقبل، لتلتحق بنموذج الضفة الغربية حيث تساهم فيه السلطة بشكل كبير وجدي في حفظ أمن يهود وتكافح من أجل البقاء على قيد الحياة كمشروع بلديات أو مقاطعات يحكمها رجال المشروع الاستثماري الفلسطيني، تحت ظلال وجناح وسيادة كيان يهود. فقد ذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل أن رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو يخطط لإبقاء الكيان في قطاع غزة، 10 سنوات، وهي المدة التي يحتاجها الجيش من أجل تحويل واقع القطاع إلى ما يشبه واقع الضفة الغربية. وقالت الصحيفة إنه "سيتم نزع سلاح القطاع من الأسلحة الثقيلة ووضعه تحت سيطرة فلسطينية معادية جزئياً، تذكّرنا بالسلطة الفلسطينية، مع ضربات وعمليات (إسرائيلية) لا نهاية لها على مراكز الإرهاب في عمق القطاع، وتنفيذ مداهمات مثل تلك التي ينفذها الجيش في نابلس وجنين، وتدمير منازل الإرهابيين (إذا تمت إعادة بنائها بحلول ذلك الوقت)، والاعتقالات الليلية ستستمر في خان يونس والشجاعية".
وهذا القرار بمواصلة الحرب حتى آخر نفق ومجاهد وصاروخ، يصرح به قادة يهود وأمريكا حتى عند حديثهم عن الهدنة الإنسانية وتبادل الأسرى. فقد قال رئيس وزراء كيان يهود نتنياهو لقناة سي بي إس الأمريكية "إذا توصلنا إلى اتفاق فسوف تتأخر (العملية) إلى حد ما، لكنها ستتم".
ولأن قادة حماس أدركوا المخطط وأن الهدنة لن تخدم سوى كيان يهود وأمريكا، إذ تمكنهم من تجاوز شهر رمضان المحفوف بالمخاطر في بلاد المسلمين التي تغلي على صفيح ساخن، ويمكنهم من استرداد أكبر عدد ممكن من الأسرى قبل أن يتم قتل الباقي في اجتياح رفح، فقد أصروا على شرط وقف إطلاق النار الشامل، أي الانسحاب وانتهاء الحرب، ضمن جدول زمني، وهذا ما يتعارض مع مخطط يهود وأمريكا الإجرامي، ولذلك صرح رئيس الولايات المتحدة ، جو بايدن قائلا: "حماس تريد وقفا شاملا لإطلاق النار لأنها ترى أن لديها فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة"، وهو ما أصاب أمريكا ويهود بخيبة أمل، لأنهم لم يفلحوا في خداع حركة حماس لقبول الهدنة. فعاد نتنياهو ليهدد بوتيرة أعلى إذ قال: "إن (إسرائيل) ستواصل هجومها على حركة حماس على الرغم من ازدياد الضغوط الدولية، بما في ذلك في مدينة رفح جنوب قطاع غزة".
وبجميع الأحوال سواء قبلت حماس بالهدنة الخادعة أم لم تقبل فإن كيان يهود وبضغط من أمريكا مضطر إلى التخفيف من حدة التصعيد ومشاهد القتل والإجرام بحق أهلنا في غزة خلال شهر رمضان المبارك خوفا وتجنبا لخروج الأمور عن السيطرة في بلاد المسلمين، التي يدرك يهود وأمريكا بأن المسألة لا تحتاج فيه إلى أكثر من شرارة واحدة تنطلق في أي من مناطق بلاد المسلمين لتنقلب الأمور رأسا على عقب، فتسترد الأمة سلطانها المغصوب من الحكام العملاء والاستعمار، ولتسير بجيوشها نحو غزة والمسجد الأقصى المبارك مكبرة محررة مهللة، وهذا أمر يدركون أنه ميسور ومتوقع وليس بعيدا أو مستحيلا.
وهذا الأمر الوحيد الذي قد ينقذ أهلنا في غزة أو يوقف الحرب؛ إما تحرك الأمة أو أحد جيوشها، أو وصول يهود وأمريكا إلى قناعة بأن ذلك بات وشيكا وقاب قوسين، تماما كما حصل إبان البوابات الحديدية التي نصبها يهود على مداخل المسجد الأقصى ولم يتراجع عنها نتنياهو إلا بعد أن مثل أمامه ذلك التخوف وبات وشيكا.
أما التعويل على الخلافات الأمريكية اليهودية أو الخلافات اليهودية اليهودية في الداخل، فهو كلام فارغ لا أثر له على مجرى الحرب والقتل والإجرام، وكذلك الأمر بالنسبة لما يسمى بالمجتمع الدولي والضغط الدولي. وما تضخيم ذلك الخلاف إلا من باب الخداع الذي يمارسه بعض السياسيين والإعلاميين لتمرير الوقت وإتاحة الفرصة الكاملة ليهود وأمريكا لتنفيذ مخططهم حتى آخر خطوة.
فأمريكا وبايدن ويهود ونتنياهو متفقون ومجمعون على سحق غزة وقتل المجاهدين وإنهاء المقاومة، وما الخلاف بينهم إلا في بعض التفاصيل اللازمة لمراعاة الرأي العام العالمي أو الداخلي في أمريكا وكيان يهود، وإن كان بينهم خلاف حول اليوم التالي للحرب لكنهم متفقون على الحرب وعلى ضرورتها وضرورة انتصار كيان يهود انتصارا حاسما على جثث الأطفال والنساء وأطلال غزة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخلافات الداخلية في كيان يهود، فهم كلهم مجمعون على الحرب والنصر على غزة والمقاومة، ومستعدون لتقديم ما أسموه التضحيات الأليمة، وما يظهر بينهم من مناكفات إعلامية غايتها اليوم التالي للحرب، وتتعلق بشخص نتنياهو ولبيد وغانتس وغالانت، والأصوات الانتخابية، ومن سيخسر ويفوز بالحكومة القادمة، أما مواصلة الحرب والقضاء على المقاومة وسحق غزة فهو محل إجماع عند كل الأحزاب اليهودية والشارع اليهودي. ومحاولة تضخيم الخلاف وجعله يرتقي إلى مستوى يمكنه وقف الحرب هو وهم وخداع وتقطيع للوقت ريثما ينهون ما يريدون.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى ما يسمى المجتمع الدولي والضغط العالمي، فهو ضغث على إبالة، وفرقعات قد تزعج يهود قليلا ولكن قادة يهود يعلمون أن المجتمع الدولي لن يحرك ساكنا وأنهم في مأمن منه ومن كل الجعجعات طالما أن الضوء الأخضر والغطاء الأمريكي متوفر وقائم.
فليس لغزة وأهلها وفلسطين وأقصاها إلا أمة الإسلام وجيوش المسلمين والمخلصون من ضباط وقادة الجند في بلاد المسلمين، وإن لم يتحرك هؤلاء، كلهم أو بعضهم فإن الكفر وأهله قد أجمعوا أمرهم وحسموا قرارهم الخبيث، فحري بأمة الإسلام وضباطها وجنودها أن تحركهم النخوة ورمضان والإسلام لنصرة إخوانهم وأقصاهم.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع