أصدرت المحكمة الابتدائية في تونس الخميس 08 كانون الثاني/يناير 2024 حكما بالسجن لمدة 3 سنوات على رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بتهمة لجوء حركته إلى جماعات الضغط التي تعرف بالـ"لوبيينغ" في الولايات المتحدة الأمريكية، للتأثير في الناخبين وتَلَقِّي حزبه تمويلا من طرف أجنبي في انتخابات 2019 النيابية والرئاسية، وفي القضية ذاتها أصدرت محكمة تونسية مساء الجمعة حكماً بسجن زعيم حزب "قلب تونس" وقطب الإعلام ومنافس قيس سعيد في انتخابات 2019 نبيل القروي بالسجن لثلاث سنوات مع النفاذ العاجل.
وتشهد تونس منذ شباط/فبراير 2023 حملة توقيفات شملت إعلاميين ونشطاء وقضاة ورجال أعمال وسياسيين، بينهم الغنوشي وعدد من قيادات النهضة، منهم علي العريّض ونور الدين البحيري وسيد الفرجاني، ورجال أعمال منهم كمال لطيف، صاحب النفوذ الكبير في الأوساط السياسية، ومحمد خيام التركي، أحد مرشحي حركة النهضة لرئاسة الحكومة سنة 2020، وجاءت أغلب الاعتقالات على خلفية لقاء هذا الأخير بموظفين لدى السفارة الأمريكية فيما عرف حينها بقضية التآمر على أمن الدولة.
فالاعتقالات والمحاكمات تدخل في إطار صراع غربي بأدوات محلية على النفوذ في تونس، فالرئيس قيس سعيد أطاح بعملاء بريطانيا وبكل الركائز التي كانت تعتمد عليها في الإمساك بالبلاد بعدما تلقى دعما قويا من فرنسا أثناء زيارته لها في 22/06/2021، ورغم تبعية سعيّد لفرنسا إلا أن اعتقالات أواخر سنة 2022 طالت أحد المقربين بدوائر الحكم في تونس بتهمة التخابر مع ضابط فرنسي له علاقة بالاستخبارات الفرنسية فيما عرف بمجموعة وليد البلطي صاحب تسريبات مديرة الديوان الرئاسي المستقيلة نادية عكاشة، المقيمة حاليا بفرنسا، وهو ما يؤكد أن الغرب ماكر وليس له صديق ويلعب على أوراق كثيرة، فهو يتخلى عن عملائه إذا انتهى دورهم أو لم يعودوا قادرين على رعاية مصالح أسيادهم، والرئيس المصري السابق حسني مبارك مثال حي على ذلك.
إن إحكام قبضة الرئيس سعيّد على الحكم بعد تنقيح الدستور وتحويل شكل الحكم إلى رئاسي وشن حملة اعتقالات وتخويف في صفوف كل من يهدد حكمه، يعيد إلى الأذهان حقبة القبضة الأمنية التي كانت قبل الثورة، ولا شك أن حركة النهضة لها الدور الأساسي في الأوضاع التي آلت إليها البلاد من خلال سياسة التوافق التي انتهجتها مع المنظومة السابقة وحرصها على إرضاء الغرب بإقصاء الإسلام عن الحكم والتشريع، حيث تمت إعادة إنتاج النظام نفسه الذي ثار عليه الناس، وهو ما أفقد الحركة الغطاء الشعبي فأصبحت مكشوفة وضعيفة، يفتك بها سعيّد بتأييد شعبي واضح، فالرئيس سعيّد اختاره ناخبوه لأطروحاته الثورية وأملاً منهم في القضاء على رموز النظام القديم الذي ظل يحكم تونس فترة ما بعد الثورة عبر سياسة التوافق.
إن أشد ما كان يخشاه الغرب من الثورة هو أن تنجرف المنطقة نحو التغيير الحقيقي المنتج على أساس الإسلام، لذلك كان حرصه شديدا على إقصاء الإسلام عن الحكم والتشريع، خاصّة حين صار الإسلام بوصفه مبدأ والخلافة بوصفها نظام حكم رأيا عامّا يكتسح البلاد الإسلاميّة ومنها تونس، حيث بات واضحا توجه الشعوب العربية ومنها تونس نحو خيار الإسلام السياسي بعدما خلخلت الثورة صفوف العلمانيين وشتّت جمعهم، فصاروا لا يجرؤون على الظّهور العلني في بداية الثورة.
استعمال حركة النّهضة ذات الصفة الإسلاميّة كان ضرورة مرحلية عند الغرب لامتصاص المد الثوري في تونس خاصة وأن حركة النهضة أكدت أكثر من مرة على أنها حزب مدني ديمقراطي بمرجعيّة إسلاميّة، ولم تُخيِّب النهضة القوى الغربية في توجهها العلماني حيث سجد زعيمها راشد الغنوشي شكرا لله على المصادقة على دستور التأسيسي الوضعي الذي أقصى الإسلام عن الحكم والتشريع، وأكد على مدنية الدولة، لتكون تونس، منطلق الثورات، نموذجا في المنطقة للتغيير على أساس الفكر الرأسمالي الغربي، وهو ما يعد انقلابا على مطلب الثائرين الذين طالبوا بإسقاط النظام العلماني الذي سامهم الفقر وسوء العذاب، فالشعب التونسي عندما ثار، إنّما ثار على كل من هو مسؤول عن مآسيه من الغرب وعملائه إلى الأنظمة الدستورية الوضعية التي تحكم بغير ما أنزل الله.
لا يحتاج الرئيس سعيّد حلّ حركة النهضة بعدما فقدت الـتأييد الشعبي، خاصة بعدما جمّد نشاطها بقرار من وزارة الداخلية عملا بقانون الطوارئ لسنة 1978، هذا بالإضافة إلى أن أتباع الحركة أصابهم اليأس من قدرتهم على التغيير.
سيمضي الرئيس قيس سعيد في تركيز السلطة بيده عبر خوض الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها أواخر هذه السنة دون منافسة حقيقية بعدما أزاح كل الخصوم من طريقه، ومع ذلك لن تستقر له الأمور، فالشعب التونسي أدرك أن حاله ازدادت سوءاً؛ فطوابير الناس أمام المخابز والمغازات ومحطات البنزين صارت شيئا مألوفا، وحجم الدين الخارجي بلغ أكثر من مائة مليار دينار، والضغوط الخارجية لالتهام ما تبقى من مقدرات الشعب التونسي مستمرة، وحكومة الرئيس ليست سوى أداة لتطبيق المنظومة الرأسمالية الغربية التي لن يجني الناس منها إلا البؤس والشقاء، بالإضافة إلى تأمين مصالح الغرب وشركاته الناهبة، كل هذا سيراكم الغضب وقد يدفع ذلك للسيناريو الأسوأ لمنع الانفجار، وذلك بتحرك "سيسي تونسي" يتم إعداده على نار هادئة من إحدى القوى الأجنبية.
وتبقى الشمعة المضيئة ومحط الرجاء أن يهتدي الشعب التونسي إلى أنه لا خلاص له إلا بالإسلام وحكم الإسلام، فيقلب الطاولة على الغرب وأدواته المحلية، مستعينا بأهل القوة والمنعة، فيسترجع سلطانه ويمكّن المخلصين من أبنائه لتأسيس حكم راشد على أساس الإسلام في إطار خلافة راشدة على منهاج النبوة، تحرر المنطقة من النفوذ الغربي وتجمع من طاقات الأمة وقواها ما يمكّنها من الوقوف في وجه أعتى الدول.
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾
بقلم: بلال الطالب – ولاية تونس
رأيك في الموضوع