تواجه الإدارة الأمريكية هذه الأيام قضايا سياسية عدة تراوح مكانها، وتتسبب بأزمة حقيقية في السياسة الخارجية لدرجة أنها تقف عاجزة عن اتخاذ قرارات حازمة إزاءها، وكان آخر هذه الأزمات المناكفات السياسية الحاصلة في الكونغرس لتمرير حزمة من المساعدات لكل من أوكرانيا وتايوان وكيان يهود؛ فقد وافق مجلس الشيوخ الأمريكي في 13/2/2024 على مشروع قانون لتقديم مساعدات لأوكرانيا وكيان يهود وتايوان بقيمة 95.34 مليار دولار. وصوت أعضاء مجلس الشيوخ بأغلبية 66 صوتا مقابل 33 ليتم تجاوز 60 صوتا المطلوبة لتخطي العقبة الإجرائية الأخيرة. ويتضمن التشريع 61 مليار دولار لأوكرانيا، و14 مليار دولار لكيان يهود، و4.83 مليار دولار لدعم الشركاء في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مثل تايوان، وردع العدوان الصيني... في حين إن القرار ما زال يراوح مكانه ويواجه عجزا في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون. وكان مجلس النواب قد رفض سابقا مشروع قانون تقدم به الجمهوريون؛ يقضي بتقديم مساعدات عسكرية لكيان يهود بقيمة 17.6 مليار دولار بتاريخ 7/2/2024، في حين قال الديمقراطيون إنهم يريدون التصويت بدلاً من ذلك على مشروع قانون أشمل يقدم أيضاً المساعدة لأوكرانيا، ويوفر تمويلاً جديداً لأمن الحدود؛ وجاء التصويت بأغلبية 250 صوتاً مقابل 180؛ ما يعني أنه لم يحصل على أغلبية الثلثين اللازمة لإقراره. وكان التصويت على أساس حزبي إلى حد كبير، على الرغم من معارضة 14 جمهورياً لمشروع القانون، ودعمه من قبل 46 ديمقراطياً. ووصف العديد من المعارضين هذا التشريع بأنه "حيلة سياسية" من جانب الجمهوريين لصرف الانتباه عن مشروع قانون بمجلس الشيوخ يهدف لتخصيص 118 مليار دولار لتمويل أمن الحدود، وتقديم مساعدات عسكرية طارئة لأوكرانيا وكيان يهود.
والحقيقة أن هناك ثلاثة ملفات ساخنة تواجه أزمة فعلية في ظل المناكفات والصراعات السياسية بين الحزبين الكبيرين في أمريكا، وفي ظل الانقسام في مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس). فما هي هذه الأزمات الساخنة؟ وما هي حدود ومدى توسعها وامتدادها؟ وهل يمكن أن تؤدي إلى فوضى سياسية غير مسبوقة في تاريخ أمريكا؟ وما هو مدى تأثيرها على الانتخابات القادمة، خاصة وأنها تتهيأ إلى مرحلة الدعاية الانتخابية، ثم الانتخابات في ظلّ حالة من الخصومة والعداء الظاهر الذي يطال كل مؤسسات الدولة لدرجة أنه امتدّ إلى الولايات المؤيدة أو المعارضة لأحد هذه الأحزاب؟!
إن أبرز هذه الأزمات:
1- أزمة الحدود والهجرة إلى داخل أمريكا، حيث إن إدارة بايدن أرادت أن تتخذ من هذه القضية دعاية انتخابية في فتح باب الهجرة ضمن ضوابط موسعة أكثر بكثير مما كان يطرحه ترامب في ولايته وذلك لكسب أصوات مئات الآلاف من المهاجرين عبر تكساس وغيرها. أما الحزب الجمهوري بقيادة ترامب فأراد عكس ذلك تماما؛ كدعاية انتخابية لإرضاء بعض الولايات في زيادة فرص العمل خاصة أن ترامب يميل إلى الناحية العنصرية بسبب ارتباطه باليمين المتطرف. والحقيقة أن أزمة الحدود والهجرة لم تقف عند تكساس وحدها بل أثارت زوبعة كبيرة داخل أمريكا باتت تهدد بعض الولايات بالانفصال عن الاتحاد الفيدرالي. وما جرى في تكساس في الفترة الأخيرة في أزمة الحدود وانضمام 25 ولاية إليها في القرار هو شاهد على ذلك. فقد جاء في موقع أي 24 بتاريخ 29/1/2024: "مؤخراً، نشب خلاف بين حاكم تكساس والمحكمة العليا بسبب رفضه لقرارها بإزالة الأسلاك الشائكة المستخدمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وانضمت 25 ولاية أمريكية، التي تمثل نصف عدد الولايات، لدعم تكساس، ما أثار توتراً يهدد بنشوب حرب أهلية في حال تدخل القوات الفيدرالية لإزالة الأسلاك رغم المعارضة القوية من قبل الولاية. تكساس هي أيضا حجر الزاوية في السياسة الأمريكية، ويمنحها نطاقها وعدد سكانها نفوذاً كبيراً في المشهد السياسي".
2- أزمة تمويل أوكرانيا، حيث إن الجمهوريين يضعون العراقيل أمام هذا التمويل، ويتهمون إدارة بايدن بتبذير المال العام لصالح قضايا لا تهم أمريكا في سياستها الخارجية، وتتسبب بالأزمات الاقتصادية، وزيادة سعر الربا والتضخم، ما يؤدي إلى خفض الأجور ورفع الأسعار. وقد رفض الجمهوريون الربط بين المساعدات لكيان يهود والمساعدات لأوكرانيا، واعتبروا ذلك خدعة سياسية لتمرير المشروع ما تسبب بأزمة حقيقية أوقفت حزمة المساعدات المقترحة ضمن المشروع لكيان يهود. وتسببت كذلك بوقف المساعدات للحرب الأوكرانية، وكان لكلا الأمرين تداعيات سياسية على السياسة الخارجية لأمريكا وعلى كلا الحزبين. والحقيقة أن الامتناع عن تمويل الحرب في أوكرانيا له تداعيات خطيرة على الموقف الأوروبي الداعم لأمريكا، وعلى أعمال حلف الأطلسي الداعم كذلك لأوكرانيا أولا، وعلى حماية حدود دول أوروبا القريبة من روسيا ثانيا. وقد صرح قادة الحلف أكثر من مرة أنهم لا يستطيعون مواصلة دعم الحرب دون أمريكا. وإذا ما توقف الدعم الأمريكي فإن ذلك سيحدث تغيرا نوعيا في مجريات الحرب؛ بل يحدث انقلابا كليا في قدرة أوكرانيا على المضي في هذه الحرب. وقد ذكرت جريدة اليوم السابع بتاريخ 4/10/2023، نقلا عن وزير خارجية مولدوفا نيكيو بوبيسكو "أن الأصوات التي تعلو من وقت لآخر تطالب الولايات المتحدة بتوقف المساعدات التي تقدمها لأوكرانيا لا تدرك مدى خطورة تلك الخطوة، وتأثيرها الكارثي على العديد من الدول الأوروبية الضعيفة؛ ولا سيما دول شرق أوروبا والقريبة من الحدود الروسية. وتابع بوبيسكو، أن المساعدات الدولية لأوكرانيا تشكل بالنسبة لدولة من الدول القريبة من أوكرانيا؛ مثل مولدوفا، طوق النجاة لضمان أمنها، وسوف يؤدي توقف هذا الدعم إلى نتائج كارثية على دول المنطقة بأسرها".
3- ما يتعلق بالدعم العسكري لكيان يهود حيث إن مواقف الجمهوريين واضحٌ فيها التأييد لنتنياهو، ويسعى الجمهوريون لتمرير القرار دون الربط بين مسألة الحدود أو أوكرانيا. لكن إدارة بايدن رفضت ذلك، واشترطت أن يكون الأمر حزمة واحدة تدخل فيه مسألة تايوان وأوكرانيا والحدود وكيان يهود. وهذا الأمر تستخدمه إدارة بايدن في الحقيقة للضغط على كيان يهود؛ من أجل تطويعهم في التوقيع على حل الدولتين ضمن مشروع وقف الحرب والحلول السياسية التي تطرحها إدارة بايدن هذه الأيام في مصر. وقد ذكر موقع الجزيرة نت 4/2/2024 نقلا عن الرئيس الأمريكي بايدن: "أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن مذكرة رئاسية تطالب الحكومات الأجنبية التي تتلقى أسلحة من واشنطن بتقديم ضمانات مكتوبة عن الالتزام بالقانون الدولي والأمريكي. وطلبت المذكرة الرئاسية من وزيري الخارجية والدفاع تقديم تقارير دورية للكونغرس للحصول على رقابة ذات معنى على الأسلحة التي تزود بها أمريكا الحكومات الأجنبية".
والحقيقة أن المناكفات السياسية في الأمور الثلاثة السالفة تصب في الاتجاه نفسه والسياسات نفسها لكلا الحزبين، والهدف هو موضوع الأصوات والدعم الشعبي الداخلي من قبل الناخب الأمريكي في الانتخابات القادمة 2024.
إن ما يجري في أمريكا حقيقة يزيد من هوة الشرخ بين الشعب الأمريكي الموجود أصلا بعمق؛ ولا يستبعد أن يؤدي في النهاية إلى انهدام المنظومة الأمريكية بأكملها وتفككها، خاصة أن بذرة الانفصال موجودة ومتعمقة في المجتمع الأمريكي، وتتنامى يوما بعد يوم. نسأله تعالى أن ينتصر لدماء المسلمين التي تسببت أمريكا بها في كل الأرض، فينهدم بنيانها من القواعد فيخرّ عليها السقف من فوقها ويأتيها العذاب من حيث لا يشعرون؛ تماما كما جرى مع سلفهم الاتحاد السوفياتي. ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾.
رأيك في الموضوع