تحدثنا في الحلقة الماضية عن بعض البيانات التي صدرت عن الأمم المتحدة، ومجلس أمنها، وعن سياسيين بارزين في الإدارة الأمريكية، وعن منظمات يهودية أمريكية تعيش في أمريكا، تتهم اليهود بالتصعيد، وتطالبهم بتهدئة الأمور؛ وذلك كي لا تؤثر أعمال اليهود داخل فلسطين على سياسات الغرب بشكل عام تجاه منطقة الشرق الأوسط، وتجاه النظرة الغربية لقضية فلسطين على وجه الخصوص. ونكمل في هذه الحلقة ما صدر من تلك البيانات، وتظهر عدم رضا الغرب خاصة أمريكا من سياسات حكومة يهود داخل فلسطين، وتهديدها للسلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
- في 21/2/2023 أصدر مجلس الأمن بيانا رسميا، ندّد فيه بخطة كيان يهود التوسع في المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية المحتلة في مناطق 67. وقد دعمت أمريكا البيان، بينما وصفه كيان يهود بالانحيازي، وذلك بعد التراجع عن طرح مشروع قرار يطالب بوقف فوري للاستيطان، وقال البيان: "إن مجلس الأمن يكرر التأكيد على أن استمرار الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية يهدّد بشكل خطير إمكانية حلّ الدولتين على أساس حدود 1967"، وأضاف أن "مجلس الأمن يعبر عن القلق البالغ والاستياء إزاء إعلان (إسرائيل) في 12 شباط الخاص بتوسيع الاستيطان". كما أكد "معارضته لجميع الإجراءات الأحادية الجانب التي تعرقل السلام ومنها بناء وتوسيع المستوطنات (الإسرائيلية)، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، وإضفاء الشرعية على المستوطنات، وهدم مساكن الفلسطينيين وتهجير الفلسطينيين المدنيين".
هذه بعض المواقف والتصريحات التي صدرت عن بعض الساسة الأمريكان والأوروبيين تجاه الأعمال التي تقوم بها حكومة يهود تجاه أهل فلسطين من قتل واعتداء وتنكيل.
والحقيقة أن سياسة أمريكا والاتحاد الأوروبي لم تقف عند حدّ الاتهام، وتوجيه اللوم لكيان يهود، بل إن أمريكا على وجه الخصوص مارست سياسات أخرى للإمساك بزمام الأمر، وعدم اتساع دائرته مثل (ممارسة سياسة الإغراءات والضغوطات) في الوقت نفسه؛ من أجل إقناع يهود بالتهدئة، وإبقاء الأمور على ما هي عليه مؤقتا؛ لانشغال الإدارة الأمريكية بقضايا عالمية ساخنة، وعدم تفرّغها لقضية فلسطين حاليا. وقبل أن نذكر بعضا من هذه السياسات نريد أن نقف قليلا عند بعض الأمور في توصيف الأوضاع السياسية التي تتعلق بالداخل الفلسطيني والمحيط، والنظرة عند الدول الكبرى على رأسها أمريكا لهذه الأوضاع والأحداث:
1- منذ مقتل رئيس وزراء يهود إسحاق رابين تعاقبت في الكنيست حكومات ضعيفة من حيث الترابط الحزبي والتجانس، وغير قادرة على اتخاذ أية قرارات فاعلة، أو ذات تأثير مميز لقضية فلسطين؛ وذلك نتيجة الائتلافات الحكومية غير المتجانسة بين اليمين واليسار، أو بين اليمين ويمين الوسط أو غير ذلك. فهذه الحكومات المتعاقبة بعد رابين جاءت ضعيفة في تشكيلتها، ولم يبرز حزب واحد قادر على الحسم السياسي، أو على تشكيل حكومة بدون الأحزاب الأخرى. وبالتالي فإن الأحزاب الأخرى كانت لها سلطة على هذه الحكومات، وتهدد في أي وقت بإسقاطها. وحكومة نتنياهو هذه على وجه الخصوص هي حكومة هجينة غير متجانسة، وتشكل الأحزاب المتطرفة أكثر الأصوات فيها، واستطاعت أن تملي على رئيس الوزراء ما تريد من مناصب سيادية حساسة منها الأمن الداخلي والمالية، ومن قرارات سياسية منها توسيع دائرة الاستيطان، ومنها التصويت على تغيير قوانين المحكمة العليا لدرجة أنها أثارت الشارع اليهودي وأدت إلى شرخ في المواقف السياسية لدى المؤسسات المدنية والجيش وأحزاب المعارضة.
2- تشتت المواقف السياسية داخل كيان يهود، ووجود معارضة قوية مدعومة من الإدارة الأمريكية، وتهدد حكومة نتنياهو بالسقوط وعدم الاستقرار. وهذا نتيجة المواقف السياسية المتشددة أولا تجاه قضية فلسطين، ونتيجة ما تطرحه هذه الحكومة من قوانين جديدة خاصة موضوع المحكمة العليا اليهودية. وقد أدى هذا الصراع السياسي والتشتت بالفعل إلى إيجاد شرخ كبير في الأوساط السياسية والجيش، وإلى حملات متواصلة من المظاهرات وأعمال التنديد بقرارات الحكومة، والعمل على إسقاطها، ما جعل الحكومة تحاول في أكثر من مرة إشعال جبهات خارجية؛ للهروب من ضغوطات الواقع الداخلي إلى الخارج أو إلى الأمام. وأكثر هذه الأعمال تتجه إلى الداخل الفلسطيني بحجة القضاء على الإرهاب. والمعارضة داخل كيان يهود كما نعلم فيها شخصيات محسوبة على الإدارة الأمريكية الحالية، مثل جانتس وزير الدفاع السابق، وبعض القيادات في الجيش.
3- الأعمال التي يقوم بها المغتصبون والمليشيات المتطرفة التابعة للمنظمات اليهودية في المغتصبات اليهودية داخل أراضي ما يسمى بمناطق سي، أدت إلى زعزعة السيطرة عليها. وصارت هناك أعمال مضادة يقوم بها أهل فلسطين ضد المستوطنين، اتسعت دائرتها وتطورت لتكون أعمالا منظمة ومدروسة. وربما تطورت الأمور داخل كيان يهود واتسعت دائرتها للضغط على الحكومة الحالية لكبح جماح هذه الأحزاب المتطرفة، والتخفيف من أعمالها العدائية، أو إسقاط الحكومة. فالعمليات العسكرية ضد المغتصبين والمليشيات فيها صارت بشكل منظم وشبه يومية، وهذا الأمر يقود إلى حالة من عدم الاستقرار لسكان المغتصبات، وبالتالي يدفع الحكومة إما إلى التهدئة، أو إلى زيادة التشدد وأعمال القتل والتنكيل، ومزيد من مصادرة الأرض وهدم البيوت؛ وبالتالي يضعها أمام مواقف عالمية أكثر انتقادا من الدول الكبرى.
4- الإدارة الأمريكية غير متفرغة الآن للملف الفلسطيني والأوضاع كذلك غير مؤهلة لقيامها بمبادرات سياسية لأن الأرضية السياسية في كيان يهود لا تقبل أية مفاوضات، ولا أية تنازلات فيما يتعلق بالمناطق المحتلة. وعملية تهيئة الأرضية تحتاج إلى جهود كبيرة، وتفرغ لتغيير الخارطة السياسية في كيان يهود عن طريق أعمال عسكرية وسياسية كبيرة. وهذا الأمر ليس سهلا في الظروف الحالية خاصة أن الخارجية الأمريكية والسي آي إيه ومراكز القرار منشغلة بقضايا سياسية ساخنة جدا داخلية وخارجية.
5- تخوف الدول المحيطة خاصة المطبعة مع يهود من تفاقم الأحداث، وازدياد أعمال العنف تجاه السكان الفلسطينيين. فالشعوب المحيطة بفلسطين تتعاطف مع قضية فلسطين من منطلق عقائدي خاصة قضية المسجد الأقصى المبارك. وقد أدت الأحداث السابقة في المسجد الأقصى، وفي مخيم جنين إلى احتجاجات قوية في البلاد المحيطة بفلسطين أو حتى البعيدة عنها مثل إندونيسيا وباكستان وأفغانستان؛ وهذا بالتالي يقود إلى زعزعة الأمن لدى هذه الحكومات المهزوزة والمأزومة أصلا. وبمعنى آخر يقود إلى زعزعة الحكومات الموالية لأمريكا، وتخدم مصالحها أكثر من كيان يهود مثل مصر وتركيا والسعودية وباكستان. فمثل هذه الدول تقدم خدمات سياسية واقتصادية كبيرة لا يقدر عليها كيان يهود، وهي مهمة في استقرارها السياسي. وقد هددت الدول المحيطة بكيان يهود بالفعل بإنهاء التطبيع، وقطع العلاقات إذا استمرت الأعمال داخل المناطق المحتلة، واستمرت سياسات التنكيل ضد هؤلاء السكان. وهذه التهديدات هي توجيهات أمريكية أيضا من أجل الضغط على كيان يهود للتهدئة.
6- يصرح قادة السلطة باستمرار وفي أكثر من مناسبة بأن الحكومة الفلسطينية غير قادرة على ضبط الأمور بموجب الاتفاقات الموقعة معها مثل اتفاق أوسلو، وغير قادرة حتى على حماية نفسها، كما ذكر ذلك رئيس السلطة محمود عباس أمام هيئة الأمم المتحدة يوم 15/5/2023؛ وذلك بسبب ما تقوم به عصابات يهود داخل فلسطين، وما تقوم به الحكومة والجيش أيضا من مؤازرة لهذه العصابات. وكل ذلك أدى إلى إضعاف مواقف السلطة والتزاماتها بموجب اتفاقية أوسلو. وقد كرر هذه المقولة قادة السلطة أكثر من مرة بأن أعمال حكومة يهود لم تترك لنا أية خيارات، أو أعمال داخل المناطق، وأصبحت السلطة أمام أهل فلسطين عبارة عن مهزلة غير قادرة على حماية نفسها ولا شعبها.
...يتبع
رأيك في الموضوع